حرصت طوال شهر رمضان المعظم علي البحث في أغوار الشخصية المصرية ومحاولة سبر أغوارها الروحية والباطنية وخبراتها المتفردة في المزج بين الصلاة والأصوام حيث يكاد يرتبط لدي المصري الصوم بالصلاة وجاء مقالي الأول بعنوان أصوام المصريين 467 يومًا، وفي مقالي الثاني المعنون: بمدد شدد حيلك يا بلد بحثنا في الجانب المقاوم في الشخصية المصرية في ارتباطها بالصيام وكيف أن المصريين ربطوا بين صيام رمضان 656 ه، ودحر التتار وبين 1393ه، والانتصار علي إسرائيل في العاشر من رمضان، كذلك ارتبطت روح المقاومة في العصر القبطي عند الأقباط ما بين الأصوام والانتصار علي الامبراطورية الرومانية، هكذا يبدو جليًا ارتباط روح المقاومة المصرية السلمية أو الدفاعية القتالية بروحانية الصيام، وفي مقالي الثالث المعنون بأصوام ونذور لوجه الله بحثنا عن مكون التدين الشعبي من موالد ونذور في ارتباطه بفرادة الشخصية المصرية، فكيف أنه لا تخلو قرية أو حي من ولي أو قديس شفيع لهذه المنطقة. وفي الثلاث مقالات السابقة لم نكن نبحث في التدين الشعبي وعلاقته بالتدين الرسمي بل كنا نبحث في الشخصية المصرية وكيف أنها تحوي داخلها الكثير من التعدد الخصب الذي قد يبدو لدي بعض أصحاب التدين الشكلي والحرفية والجمود العقائدي ضربًا من الزندقة أو الهرطقة ولكن المصريين سبيكة صهرتها خبراتها التاريخية في مواجهة التحديات الجسورة والمصيرية فالمصري يتقرب إلي الله إلي حد ما قد يبدو للآخرين تواكلاً وليس توكلاً فالمصري يمزج في شخصيته الفريدة بين ما قد يراه بعض الوهابيين أو الأرثوذكس (أي أصحاب الرأي الواحد) ضربًا من الخرافة أو الخروج عن الشكل الديني خاصة المذهبي، ولكن في جوهر الشخصية المصرية هناك غلالة دقيقة تفصل ما بين الخرافة والتقوي، وهذا ما نبحث عنه في مقالنا الرمضاني الرابع والأخير. وكما سبق قوله فإن الشعب المصري إسلامه سني ولكنه يتقرب إلي أهل البيت أكثر من الشيعة، ومسيحيته أرثوذكسية ولكنهم يؤمنون بالشفاعة أكثر من الكاثوليك، لقد استوعب المصريون كل ما هو إيجابي في كل من وفد إليه وصار جزءًا من رقائقهم الحضارية، فعلي سبيل المثال عرف المصري القديم الأصوام في ارتباطها بالاحتفالات الدينية مثل صوم العيد الكبير للإله مين وعيد الأم ايزيس وعيد زيارة آمون لمعبد الأقصر، وعيد الجبانة وغيرها من الأعياد التي ارتبطت بالأصوام وبالموالد والاحتفالات الدينية، واكتسي الأمر روحانية جديدة في العصر القبطي حيث ارتبط بأسماء القديسين وأصوامهم.. مثل مولد السيدة العذراء ومارجرجس، وكذلك في العصر الإسلامي وحتي يومنا هذا تستمر هذه الاحتفالات لأيام أو أسابيع كمولد الحسين والسيدة زينب، ويتفرد المصريون بالعلاقة بالأضرحة عن سائر أهل السنة أو المسيحيين في العالم. تلك الأضرحة المنامية تقام لولي من أولياء الله الصالحين أو قديس دون أن يكون مدفونًا بها المتوفي وتعلوها في الغالب قبة لتعظيم ما تحتها ويشترك في ذلك المتصوفة والرهبان حيث يمثل البحث في تاريخ تلك الأضرحة والمقامات غاية الصعوبة حيث تجد للولي أو القديس أكثر من ضريح أو مقام أو مكان للتبرك ويرتبط بهذه الأضرحة صناديق النذور وتقام في المساجد أو الكنائس وتنسب الكرامات علي سبيل المثال ضريح رابعة العدوية بمصر حيث توفيت علي الأرجح ما بين 180ه أو 185 ه ودفنت في خلوتها بالبصرة، أو أضرحة مارجرجس المتعددة التي لا يعلم أحد حتي الآن أين الجسد الحقيقي لمارجرجس، ولكن هذا لا ينفي الجانب الإيجابي للتبرك واستلام روح هؤلاء الأولياء أو القديسين وأحيانًا تصير هذه الأضرحة ملاذًا للمظلومين حينما يعانون الظلم ورصد المرحوم الدكتور سيد عويس ظاهرة إرسال الرسائل لضريح الإمام الشافعي الذي كان قاضيًا عادلاً، كذلك رصد باحثون آخرون الرسائل التي كان يرسلها الأقباط للبطريرك الراحل الأنبا كيرلس السادس، وفي كلتا الحالتين سواء للإمام الشافعي أو للأنبا كيرلس السادس كثرت الرسائل كلما زاد الظلم وكلما زادت النوائب فوق طاقة البشر وهكذا استطاع المصري أن يوظف التقوي وزيارة الأضرحة في المقاومة السلبية، الأمر الذي قد يراه الكثيرون ضربًا من الخرافة أو الشعوذة ولا يخلو الأمر من خرافة وأساطير وتجارة روحانيات ولو تم رصد الأموال التي يطلق عليها البعض بزنيس الروحانيات وجماعة المنتفعين بها لبطل الحديث عما يسمي بالتمويل الأجنبي. وهكذا يصعب الفصل بين الخرافة والتقوي والدروشة والتوكل والتواكل وروح المقاومة في الشخصية المصرية. أخيرًا.. إن الشخصية المصرية مثل المحارة الملقاة في عمق البحر يدخلها الكثير من المخلفات القذرة ولكنها تصمد وتتحول علي مر السنين إلي لؤلؤة والله أعلم. وكل عام وأنتم بخير.