سألتني ابنتي فقالت: (هل صحيح أننا نصوم لنشعر بالفقير؟)، فأجبتها قائلا: (ولماذا يصوم الفقير؟)، نعم لو أن الحكمة من وراء هذا الصيام هي شعور الغني بالفقير الجائع لفرض الصوم علي الأغنياء وحدهم. إن الصوم عبادة عظيمة لها خصوصية من حيث هيئتها إذ أن كل عبادة من العبادات هي من قبيل الفعل والصوم يختص بأنه إمساك أي عدم الفعل. وعدم الفعل أي الإمساك يدرب النفس ويجعل زمامها في يد صاحبها إذ يمنعها عن الشهوات المباحة أصلا في غير رمضان، والتي صارت محرمة بأمر الله في نهاره، فتتهيأ النفس بذلك للطواعية لله ورسوله بترك المحرمات التي نهيت عنها في رمضان وغيره.. أضف إلي ذلك محافظة الصائم علي لسانه وسائر جوارحه من كل محرم حتي يحافظ علي أجر صيامه إن أراد أن يحسن هذه العبادة العظيمة، فيتم في هذا الشهر تهذيب النفس المسلمة علي حسن الخلق. وهنا نري أن الصوم هو من أهم العبادات التي يستعد بها المؤمن ويبدأ بها طريق السير إلي الله عند العزم عليه. ذلك أن السير إلي الله يبدأ بالتخلي أي ترك مذموم العادات وهجر سيئ الأخلاق وتحقيق التوبة الصادقة، وكل هذا يحتاج إلي إمساك بزمام النفس حتي يمكنها ترك ما ألفت من عادات سيئة أو أخلاق مذمومة، والصيام يدرب النفس علي الإمساك والامتناع عما تشتهي وترغب من أجل رضي الله سبحانه وتعالي. ولذا فإن الصوم حقيقة يمكن أن يكون بداية سير العبد إلي الله إذا فهم المسلم ذلك وتحقق بهذه المعاني، ويمكن أن يكون هذا الشهر الكريم بداية هجرة حقيقية حيث قال النبي صلي الله عليه واله وسلم (والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه). ومن هنا يتجلي معني أن يكون الصيام شهرا كاملا ولم يفرقه الله علي هيئة أيام علي مدار العام.. ذلك أن الإنسان إذا هجر عادة سيئة أو خلقًا ذميمًا وتحلي في المقابل ببعض الفضائل خالصا لله سبحانه وتعالي لمدة ثلاثين يوما، فإنه يسهل عليه بعدها أن يتمسك لما اعتاده طوال الثلاثين يوما، وأن يهجر ما تركه خلال الشهر فيصير ذلك عنده خلقا. أي أن هذا الشهر الكريم يمكن أن يكون إعدادا لما بعده وإعادة صياغة من الإنسان لنفسه ببركة هذا الشهر وبنور الصيام وبعطاء الرحيم الرحمن سبحانه وتعالي. الطريق إلي الله يبدأ بالتخلي، والصوم تخل وترك، ثم بعد ذلك يأتي التحلي، والصوم تأديب للنفس، ومن ورائهما يأتي التجلي، فإذا صفت النفس في رمضان تهيأت لأن تكون مهبطا لتجليات الرحمن. الصيام عبادة عظيمة جعل الله كل عبادة لابن آدم له إلا الصوم فهو لله وهو يجزي به، فما أكرم ما خبأ الله للصائمين من فضل في الدنيا ويوم الدين.. إلي متي نعاني الإهمال؟ يوم الثلاثاء الماضي لبيت دعوة أحبابي في إحدي قري كفر الشيخ وبعد الإفطار و أثناء انتظار العشاء ظهرت أعراض الإعياء علي أحد أحبابنا وظهر أنه يعاني جلطة، فحمله أحد الأطباء ومعه مجموعة من أحبابنا وانتقلوا به سريعا إلي المستشفي في كفر الشيخ. وفي اليوم التالي قبيل الإفطار اتصلت بأخ من إخواني لأطمئن علي حالة المريض، فإذا به يقص لي ثائرا مسلسلا من الإهمال واللامبالاة والتجرد من أبسط معاني الإنسانية والضمير في التعامل مع حالة الرجل. ويكفي أن أذكر أنه حتي هذه المكالمة التي جرت بيني وبين هذا الأخ أي بعد ما يقرب من 24 ساعة لم يكن أحد الإخصائيين قد مر علي المريض ليشخص الحالة.. ومعلوم أن الجلطة تحتاج إلي معاملة سريعة خلال سويعات حتي لا تترك أثرا، غير أن هذا لم يتم.. ما الذي حدث لنا؟ وإلي متي نعيش هذه المآسي التي نري فيها تجرد بعض الناس من ضمائرهم؟ لا أدري! هكذا خلق المسلم وفي مقابل هذه الصور السلبية المتكررة، تشرق شمس الخير علي الواقع المظلم فنري أن الخير مازال باقيا فينا. ففي الوقت الذي نري فيه ما يجري من الأزواج لإن حدث شقاق، ونري قسوة في الخصومة أثناء و بعد الطلاق، ونري مخالفة للشرع وللأمر القرآني (فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوف) -سورة: البقرة - الآية: 231. ومخالفة لأمر الله القائل (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَينَكُمْ) -سورة: البقرة - الآية:237، إذا بنموذج طيب يظهر بين هذه الصور، إذ سألني رجل في المسجد عن جواز أن يدفع زكاة ماله وهي مبلغ كبير علي حد قوله إلي مطلقته إذ أنها فقيرة ولها بنات من رجل آخر وهي التي تقوم علي تربيتهن. تأثرت حقيقة من طيبة قلب الرجل، وقلت في نفسي هكذا يجب أن تكون فطرة المسلم.. وهكذا يجب أن يكون خلقه. الرجل يريد الإنفاق علي مطلقته وأبنائها في زمن يرفض كثير من الرجال الإنفاق علي أبنائهم إذا طلقوا أزواجهم. نعم، الخير باق في هذه الأمة، ولعلنا نحاول إبراز بعض الإيجابيات والتحدث عنها بدلا من الحديث فقط عن الصور السلبية التي تتصدر صحفنا وأخبارنا حتي أصبحنا نري الدنيا مظلمة من حولنا.