واحدة من المشكلات الأساسية التي يعاني منها المجتمع هي الشفافية، مما يفتح الباب أمام التكهنات، والشائعات، والقصص والروايات. وقد سمح ذلك بإضفاء حالة من الضباب علي مناقشة العديد من القضايا في الحياة العامة. وعادة ما يؤدي غياب الشفافية إلي شعور المجتمع بطغيان الفساد، إذ إن هناك اعتقادا لدي الناس أن وراء كل قضية "صامتة" رائحة غير ذكية. ويصبح المطلوب الإعلان عن الحقائق دون صمت، أو مبالغة، حتي تتحدث لغة الحقائق بدلا من ثقافة الشائعات التي تجد مجالا خصبا في المجتمع المصري. وأدي غياب الشفافية في تناول بعض القضايا إلي تحول وسائل الإعلام ذاتها إلي منابر إعلامية لإعادة إنتاج وترويج الشائعات علي نطاق واسع، وبدلا من أن تكون وسائل الإعلام نوافذ لإنارة الرأي العام، وإحاطته بالمعلومات الأساسية عن مفردات الحياة العامة، تتحول إلي أدوات في يد مروجي الشائعات.
القضية هي الشفافية وهذه نماذج لحالة غياب الشفافية في تناول القضايا... 1- سرت شائعة في مطلع الصيف حول حل مجلس الشعب، وتوقع البعض أن يجري حل المجلس في غضون أيام، إلي الحد الذي جعل صحيفة يومية خاصة تتكهن بأن حل مجلس الشعب مسألة "وقت" لا أكثر، وقد عزز بعض المسئولين هذا الاعتقاد في أحاديث صحفية منشورة بالإحالة باستمرار إلي صلاحيات رئيس الجمهورية في حل مجلس الشعب، ومرت أيام، وتكشف المجتمع أن المسألة برمتها مجرد شائعة، هل كان ذلك شائعة؟ أم أن هناك طرفا ما في المجتمع أراد إحداث مثل هذا الجدل في الوسط السياسي؟ 2- عاد الصيادون المصريون المحتجزون في الصومال بواسطة القراصنة، ومن كثرة الروايات التي نشرت في الصحف، والحكايات المروية علي ألسنة الصيادين، والتكتم علي عملية تحرير الصيادين لم يعد المرء علي بينة بما حدث، ولاسيما في ضوء الإشارة المستمرة إلي دور لأجهزة ومؤسسات الدولة في عملية التحرير.... ما الحكاية؟ هل الصيادون حرروا أنفسهم بأنفسهم مثلما يزعم البعض منهم في أحاديث صحفية؟ أم أن رجالا من أجهزة أمنية سيادية قاموا بعملية التحرير مثلما يشير البعض؟ لماذا عدم الوضوح، وغياب الشفافية في سرد المعلومات، علي الأقل حتي يتيقن الرأي العام من أن الدولة لم تترك الصيادين مثلما يردد بعضهم؟ 3- تسري حاليا شائعة حول المشروع النووي في الضبعة. هناك من يقول إن هناك أطماعا لبعض رجال الأعمال في المشروع، وهناك مساع لنقل المشروع النووي إلي منطقة أخري غير الضبعة، وبلغ الأمر حد قيام بعض أعضاء مجلس الشعب بتوجيه نداء إلي رئيس الجمهورية لمساندة المشروع، والحيلولة دون تبديده، لاسيما أن اختيار مكان آخر لإقامة المشروع قد يستتبعه إجراء دراسات، ونقاشات، تستغرق سنوات وسنوات. المشكلة الحقيقية أن يحدث ذلك في ظل حكومة الكترونية، مثلما تزعم، تعمل علي تعميق مفهوم "الاتصال" ، وعنوانها هو "القرية الذكية" . تسير الأمور علي هذا النحو من غياب الشفافية، ليس في القضايا التي ذكرتها، فهي مجرد أمثلة، ولكن هناك عشرات من القضايا التي ظلت مثار جدل ونقاش إحتدم في كثير من الأحيان في مسائل كان من الممكن حسمها إذا أعلنت الحقائق منذ اللحظة الأولي. وأكاد أجزم أن كل المشكلات الطائفية مصدرها شائعات وجدت مرتعا علي المستوي الجماهيري نظرا لغياب الشفافية، وافتقاد المجتمع ثقافة الصراحة، وعدم رغبة المسئولين في مختلف المواقع في تحمل المسئولية، ومواجهة الحقائق. وقد أدي غياب الشفافية، وعدم الرغبة في سرد الحقائق إلي حالة من حالات فقر الخيال التي تساعد علي ابتكار الحلول للمشكلات. الخيال أصبح فقيرا، ولم يعد في مقدوره أن يبدع أو يتحرك، لأن القضايا ليست في البحث عن حلول ولكن في التعتيم علي المشكلات. الفرق بين الأمرين كبير يكاد يكون مثل الفرق بين السماء والأرض.