تمر هذه الأيام الذكرى 16 لرحيل رائدة قصيدة الشعر الحر الشاعرة العراقية نازك الملائكة (23 أغسطس 1923- 20 يونيو 2007) والتى توفيت بالقاهرة، ودرست الشاعرة الراحلة اللغة العربية فى دار المعلمين العالية وتخرجت فيها عام 1944 كما درست الموسيقى بمعهد الفنون الجميلة، ثم درست اللغات اللاتينية والانجليزية والفرنسية وأكملت دراستها فى الولاياتالمتحدة عام 1954، حيث حصلت بعد عامين على شهادة الماجستير فى الأدب المقارن من جامعة وسكنسن. ونشرت الشاعرة قصيدتها الشهيرة «الكوليرا» عام 1947 فسجلت اسمها فى مقدمة مجددى الشعر مع الشاعر العراقى الراحل بدر شاكر السياب «1926 1964» الذى نشر فى العام نفسه قصيدته «هل كان حبا» واعتبر النقاد هاتين القصيدتين بداية ما عرف فيما بعد بالشعر الحر. وسجلت نازك الملائكة فى كتابها «قضايا الشعر الحديث» أن «بداية حركة الشعر الحر كانت سنة 1947 فى العراق. ومن العراق بل من بغداد نفسها زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربى كله وكادت بسبب تطرف الذين استجابوا لها تجرف أساليب شعرنا العربى الأخرى جميعا. صدر ديوانها الأول «عاشقة الليل» عام 1947 ببغداد ثم توالت دواوينها التالية ومنها «شظايا ورماد» عام 1949 و«قرارة الموجة» عام 1957 و«شجرة القمر» عام 1968 و«يغير ألوانه البحر» عام 1970. كما صدرت لها عام 1997 بالقاهرة مجموعة قصصية عنوانها «الشمس التى وراء القمة»، كما يصادف هذا العام ذكرى مرور 100 عام على ميلاد الشاعرة. وبهذه المناسبة، أعلن رئيس مجلس الوزراء العراقى محمد شياع السوداني، تكليف أحد النحاتين بعمل تمثال للشاعرة نازك الملائكة فى العاصمة بغداد، تكريمًا لها، وتخليدًا لذكراها. وفى كلمة له خلال الاحتفال الخاص بمئوية الشاعرة نازك الملائكة الذى عقد فى بغداد، قال السودانى إن «نازك الملائكة أصبحت عنوانًا للتغيير الأدبى الذى يحمل مشروعًا ثقافيًا بعمق التحولات الاجتماعية التى عاصرتها، وبمستوى حاجة الثقافة العراقية والعربية إلى التغيير، وأضاف رئيس مجلس الوزراء العراقى أن «نازك الملائكة تمكنت برغم الصعوبات والمُحددات والقوالب الأدبية الجامدة، من إنتاج صور شعرية نحو انطلاقة فكرية حديثة». وتابع القول: «وجّهنا قبل أكثر من شهرين كلَّ مدارس العراق بأن تكون كلمة يوم الخميس صباحًا موحدةً عن نازك الملائكة، ودور المرأة فى بناء المجتمع، وذلك بمناسبة مرور 100 عام على ولادتها»، مشيرًا إلى أنه «تم تكليف أحد النحاتين العراقيين بعمل تمثال كبير للشاعرة سيُنصب فى إحدى ساحات بغداد». ونازك من أكثر الشخصيات الإبداعية التى تثير الجدل وتدعو لأكثر من وقفة إزاءها. نازك الشاعرة والناقدة والتنويرية والثائرة والمنعزلة أيضًا، نازك التى كسرت عمود الشعر وفحولته التى امتدت لأكثر من أربعة عشر قرنًا، حيث كان أجدادها يقولون فى الشواعر أمثالها (إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها) وإذا بها بعد هذه المدة تمسك الديك وتنتف ريشه، وتطلق نظرية جديدة تخالف آراء أجدادها الشعراء، حيث تنظر إلى الوزن والقافية على أنهما عبارة عن سلسلة ثقيلة يجرّها الشاعر وراءه، حيث تقول: «وقد يرى كثيرن أن الشعر العربى لم يقف على قدميه بعد الرقدة الطويلة التى جثمت على صدره طيلة القرون المنصرمة الماضية فنحن عمومًا ما زلنا أسرى، تسيّرنا القواعد التى وضعها أسلافنا فى الجاهلية وصدر الإسلام، ما زلنا نلهث فى قصائدنا ونجر عواطفنا المقيّدة بسلاسل الأوزان القديمة وقرقعة الألفاظ الميتة»، وهذا جزء من مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» عام 1949، فكيف بفتاة لا تتجاوز الثلاثين من عمرها تنطلق بمثل هذه الآراء الجريئة التى تتجاوز فيها على روح الثقافة العربية التى يقف الشعر فى قلبها، فالمساءلة والنقد للشعر العربى والانقلاب على ثوابته يعنى فيما يعنيه الانقلاب على روح الثقافة العربية ومركزيتها، فمن أين أتت نازك بهذه الطاقة والقوة لكى تقلب الطاولة على رأس الشعر التقليدى؟ نازك خرجت من بيت مثقف ثقافةً تقليديةً لا تمرُّد فيها، بل إن أباها وعائلتها كانوا يسخرون منها حين كتبت قصائدها الجديدة، كما أن التجارب التى سبقتها ومحاولات التمرد لم تكن تشكل ظاهرة تسحب أقدام الشعراء نحوها، غير أن العالم بدأ يتغير بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والحياة بدأت تأخذ مسارات مختلفة عمّا قبلها، فالحياة التعليمية والسفر والترجمة بدأت تنمو فى العالم كله، ولم يكن العراق بمعزل عن العالم، ذلك أن كبريات المجلات كانت تصل إلى بغداد، كما أن التراجم بدأت بالانتشار، والشعراء بدأوا يطّلعون على آداب العالم، ومن هنا صرحت نازك فى مقدمتها ل«شظايا ورماد»: الذى أعتقده أن الشعر العربى يقف اليوم على حافة تطور جارف عاصف لن يبقى من الأساليب القديمة شيئا. كل بدايات نازك هى امتداد للرومانسيين العرب والإنجليز من الشعراء والكتاب، ومعظم أجواء قصائدها تدور فى هذا الفلك المعتم والكئيب، حيث يهيمن الليل على مناخات قصائدها، فمثلًا قصيدتها «مأساة الحياة» هى نفسها تقول عنها: «وهو عنوان يدل على تشاؤمى المطلق، وشعورى بأن الحياة كلها ألمٌ وإبهامٌ وتعقيد»، ولكنها لا تستقر على حالة واحدة، وهو جزء من تناقضات نازك وتحولاتها، فمن الذات المغلقة والعتمة والليل إلى المشاركة فى الحياة العامة السياسية والاجتماعية من خلال قصائدها التى تمشى حافية القدمين فى الشوارع العربية، وهنا تتحول من شاعرة رومانسية إلى شاعرة أكثر من واقعية، حيث تتبنى قضايا الأمة العربية وتدافع عن فلسطينوالقدس وتدعو بقصائد ذات نبرة خطابية عالية للدفاع عن الأرض وتحريرها، حيث كرّست ديوانها الأخير «للصلاة والثورة» لفلسطين ودافعت عن القدس دفاعًا شديدًا، وقد جاء هذا الديوان بعد انقطاع 3 أعوام عن الكتابة الشعرية، حيث هزّتها بطاقة تهنئة وصلت إليها، عليها صورة قبة الصخرة، فكتبت مباشرةً بعد ذلك الانقطاع: يا قبة الصخرة يا ورد يا ابتهالة مضيئة الفكرة ويا هدى تسبيحة علوية النبرة وكتبت وكتبت حتى انتهت الفسحة الفارغة على ظهر البطاقة. بعدها تواصلت بكتابة القصائد لفلسطين حتى اكتملت مجموعتها الأخيرة «للصلاة والثورة». ولكن الذى يحدث أن النبرة الخطابية العالية والمعالجة البسيطة للقضايا الشائكة توقِع النصوص الشعرية فى البرودة، والمفارقة فى الأمر أن نازك الملائكة تحمل وعيًا كبيرًا جدًا فى هذا الشأن، حيث تذكر فى مقدمة ديوانها «للصلاة والثورة» أن ما تكتبه لا علاقة له بالمستقبل، فهى تفترض قارئًا مستقبليًا سيأتى بعد مائة عام من ديوانها، هذا يعنى فى عام 2073، وتظن أن القارئ المستقبلى لن يتفاعل مع نصوصها لأنها لم تكتب الفن لأجل الفن، إنما تكتب للدفاع عن الأرض ولتعرية الصهاينة فى تلك المدة، ولكن السؤال الأهم يدور حول وعى نازك وحساسيتها تجاه الجماليات، فهى تملك حسًا عاليًا إزاء الجماليات الشعرية. نازك الملائكة هى الرائدة الكبيرة التى تحمل وعيًا عظيمًا فى التنظير والتجديد والتحديث مقارنةً برفاقها الرواد، حيث قرنت كل دواوينها الشعرية بمقدمات نظرية تطرح من خلالها رؤيتها للتحولات الشعرية، وما مقدمتها لديوان «شظايا ورماد» إلا بيان نقدى للحداثة الشعرية، ومن ثم توالت رؤيتها النقدية فى كتابها الأشهر «قضايا الشعر المعاصر»، ولكنها لم تستمر على هذا النمط، إنما تحولت إلى معلمة شديدة السطوة على الشعراء وبدأت تطلق تعاليمها على الأجيال الشعرية: اكتب كذا ولا تكتب كذا. ومن يعد لمقدمة «شظايا ورماد» يجدها استشهدت فى السطر الأول بعبارة برناردشو «اللاقاعدة هى القاعدة الذهبية»، وتتخذ من هذه العبارة قاعدة تسير عليها ملؤها التمرد والتجدد، ولكنها تعود بعد سنوات فى كتابها «سيكولوجية الشعر» لفرض قواعد على الشعراء الذين جاءوا بعدها، وبدأت تفرض قوانينها على الحركة الشعرية، مما عرّضها لموجة من النقد الشديد وُصفت بالرِّدة عن مشروع الحداثة.