«فى التاريخ يكمن الأمان» جملة تركت صداها داخل أحداث رواية «أولاد الناس.. ثلاثية المماليك» تلك الرواية التى عبرت عن فترة من التاريخ ربما لم يتم تناولها الأدبى بشكل كاف رغم زخم الأحداث بها، وهى فترة حكم المماليك لمصر تحديدًا 1250 حتى 1517 تلك الفترة التى سبقت الاحتلال العثمانى للمحروسة. استطاعت الكاتبة أن تمزج بين الأدب والتاريخ من خلال ثلاث روايات تحمل كل واحدة منها فروقات وعادات وتقاليد المجتمع المصري، بين حقائق واقعية ممزوجة بخيال الكاتب حتى أن الخط الفاصل بين الواقع والخيال انصهر بين طيات وروعة السرد والبناء الروائى، بطريقة سلسه ولغة راقية وتشويق للقارئ حتى آخر الكتاب الذى تعدت صفحاته 700 صفحة، فكانت رائعة وخاتمة مؤلفات د.ريم بسيونى أستاذة علم اللغويات بالجامعة الأمريكية، والحاصلة على عدة جوائز عربية ودوليه آخرها «جائزة نجيب محفوظ للرواية» عن هذه الثلاثية فى دورتها الأحدث والتى يمنحها المجلس الأعلى المصرى للثقافة سنوياً. وعن طريق تشييد العمائر والمساجد، كان بناء الرواية حتى أصبحت شاهدًا على الأحداث التاريخة العظيمة والمؤلمة فى بعض الأحيان، واستطاعت بسيونى أن تقدمها بوصفًا تفصيليًا لتصبح بطلًا من أبطال الرواية، من زخارفها وأبوابها وجدرانها، كذلك مشكاواتها المنيرة، جاء وصفها فى مشاهد تفصيليه حملت خلالها أحداث وعكست نوايا دفينة داخل كل شخصية ونظرتها لهذه العمائر، وكان مسجد السلطان حسن «درة العمارة الإسلامية بالشرق» أحد الأبطال الرئيسين داخل الرواية، هذا البناء الذى شيد على يد محمد بن بليك المحسني، أحد أبطال الرواية الأولى للثلاثية، ويذكر أن الغموض قد أحاط باسم الفنان الذى شيد هذا السرح العظيم حتى اكتشفه الأثرى حسن عبد الوهاب سنة 1944 على نص مكتوب فى طراز جصى بالمدرسة الحنفية. وتبدأ الثلاثية بطرح سؤال جوهريًا عن كلمة «أولاد الناس» التى مازلنا نستخدمها الى وقتنا الحاضر، فأوضحت الأديبة أن «أولاد الناس» هم أطفال المماليك، الذين ولدوا وعاشوا فى مصر، فأصبحوا يمتلكون حكم المحروسة لكنهم ليسوا محاربيين مثل أبائهم، ولا هم مثل عامة الشعب المصري، لكنهم مصريون ولدوا وتربوا على أرض مصر، فكانوا دائمًا يحملون نظرة الدونيه من قبل المماليك خاصة حين يتم تنصيبهم كحكام لمصر. وكان المهندس المعمارى محمد بن بليك المحسنى أحد هؤلاء، كان والده بطل الرواية الأولى للثلاثية «قصة الأمير محمد وزينب». تبدأ الحكاية الأولى فى عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون بعد وباء التهم ما التهم من المصريين، وكان المعتقد الأول لهذا الوباء هو لخروج النساء فى الأسواق، حتى جاءت حادثة لكبير تجار السوق، اضطر على اثرها تزويج ابنته الوحيدة زينب الى الأمير المملوكى محمد ابن عبد الله، وتعتبر هذه الحادثة الأولى من نوعها، فالمماليك لا يتزاوجون او يتصاهرون من بنات المحروسة، فلكلًا منهم عالمه المنفصل، ويكون ذلك الاستثناء نواةً للصراع الذى يحتدم بين الشخوص ويتحول فى ما بعد لصراع داخلى أشد وطأة وأعمق أثراً. وعلى الرغم من زواج البطلة زينب غصبًا، إلا ان أحداث الرواية تاخذك الى قصة حب قوية جمعت بينها وبين الأمير المملوكي، الذى اعتبرته مغتصبها فى بادئ الأمر، فهى المصرية ذات الأصل والعائلة والتاريخ أما زوجها فهو مجرد «مملوكى» دهس تحت قدميه أصلها النبيل غصبًا، لكنه أحبها مثل ما أحب أرض مصر، فكانت زينب انعكاس لأرض المحروسة الأبية التى أحبت محاربيها، وهذا هو الفرق بين الذى يحب مصر وخيراتها ويدافع عنها، وبين المحتل الذى يأخذ خيرات الأرض وثرواتها لبلادهم، وهذا هو الفارق الذى حاولت د. ريم بسيونى أن تسوتضحه خلال «أولاد الناس.. ثلاثية المماليك» بين هذه الفترة وبين الاحتلال العثمانى المغتصب لخيرات البلاد. ثم تأتى الرواية الثانية «قاضى قوص» رواية الشيخ عمرو وضيفة، والتى أوضحت فيها بسيونى الطبقة الأخرى من المجتمع المصرى وهم الشيوخ اللذين كانوا همزة الوصل بين الطبقة الحاكمة المملوكية وعامة الشعب، وكيف كان أولياء الدين يحظون باحترام كبير بين الطبقتين، لكن هذا لا يتعارض مع بطش السلاطين لهم فى بعض الأحيان. ومن جهة أخرى تعرض الرواية مواقف عدة أهمها وقوف رجل الدين بين رغباته ومنصبه، والصراع الدائر داخل الشيخ عمرو بين ميوله وتنفيذ حكم الله خاصة فى أمر زواجه من ضيفة الذى اصدر فتوى بتطليقها من زوجها وتزوج بها. من جانب آخر موقفه أمام السلطان البرقوق بعد تقيد سلطته بصفته قاضى القضاه وتعين ناظر للأوقاف دون الرجوع إليه، وهنا يظهر الصراع بين الخضوع للسلطان وقبول قراراته للحفاظ على منصبه، أم التنازل والإتجاه لتعاليم الدين حفاظَا على كبريائه؟ أما الرواية الثالثة والتى بطلها المملوكى سلار وهند، فتأخذنا الكاتبة فترة قبل الاحتلال العثمانى ودخوله للعاصمة، وكيف عانى المماليك وحاربوا مع طومان باى للوقوف أمام ذلك الاحتلال، وبلغة بليغة ووصف دقيق تعرض ريم بسيونى المشاعر الانهزامية التى تعرض لها المماليك بعد شنق طومان باى على باب زويل ونجاح السلطان الغازى سليم الأول فى دخول القاهرة، وكيف