كتب - د. محمد الدمرداش اقترن العمل السياسي في أذهان الكثيرين بشتي ألوان الخديعة والمكر والدهاء، وأشكال الحيل والغدر والالتواء، حتي صارت السياسة عندهم صنوا للدجل وقرينا للمراء، ضاربين المثل بمقولة لأحد أشهر السياسيين في العصر الحديث وهو ونستون تشرشل عندما مر علي قبر مكتوب عليه: (هنا يرقد السياسي الصادق فلان) فقال ساخرا: (هذه أول مرة أري شخصين يرقدان في قبر واحد) ! وهذه النظرة للسياسة هي ما حدت بالإمام المجدد الشيخ محمد عبده إلي أن يصرح بقولته الشهيرة: ( أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معني السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس)! وهنا لابد لنا من القول إن هذه التهمة وإن صح إطلاقها علي السياسة، فإنها لا تمثل الحقيقة كلها بل نصفها، فالسياسة شأنها شأن أي فن أو مهنة أخري كالطب والقانون، والفن هو سلاح ذو حدين : حد ينفع العباد ويرتقي بهم، وحد يركسهم ويخدرهم وينحدر بهم. ولعل من أكثر الأمور التي نعانيها هذه الأيام وأدت إلي مزيد من سوء سمعة السياسة وأهلها عند البعض هو غياب ثقافة ضبط المصطلح بحيث أصبح للمصطلح الواحد المتداول في حياتنا السياسية أكثر من مدلول، أحدها يرفع أصحابه إلي عنان السماء وآخر يهوي بهم إلي قاع جهنم، والمصطلح السياسي ليس مجرد اسم للدلالة علي فريق أو فصيل سياسي بل هو في حقيقته وعاء تطرح من خلاله الأفكار المنسوبة لهذا الفريق أو ذاك، فإذا ما اضطرب ضبط هذا الوعاء أو اختلت دلالاته التعبيرية اختل البناء الفكري ذاته واهتزت قيمته في الأذهان، أو في الأقل خفيت حقائقه، فضبط المصطلحات والمفاهيم ليس من قبيل الإجراء الشكلي أو التناول المصطنع بقدر ما هو عملية تمس صلب المضمون وتتعدي أبعاده إلي نتائج منهجية وفكرية، وكم من مصطلحات تزخر بها ساحتنا السياسية هذه الأيام ويصطرع معتنقوها دون فهم حقيقي لدلالتها في معارك وحروب موهومة كحرب داحس والغبراء، ومن هذه المصطلحات ما كان يردده النخبة ويلوكه المثقفون في منتصف القرن الماضي حين كنا نعزف علي أوتار الاشتراكية، والقومية العربية، والإسلام الديمقراطي، واشتراكية الإسلام، وديكتاتورية البروليتاريا، والطبقة الكادحة، وفائض القيمة، والبرجوازية الوطنية، ومنها ما استحدث في الحقبة الأخيرة من مصطلحات من قبيل: المجتمع المدني والأهلي، والعلمانية، والليبرالية، والعولمة، والقراءات المتعددة للدين، والسلفية، والنصر والتمكين، وعودة الخلافة.. وغيرها. وكلها تحتاج الي إعادة ضبط وتعريف دقيق بعيد عن مجازات اللغة، ودون تسويغ فكر علي حساب آخر أو تلميع مصطلح وإطفاء آخر، فقط إعطاء كل مصطلح معناه الحقيقي ودلالاته التي يحملها. وصحيح أن ذلك أمر تكتنفه الصعوبة والمشقة لكوننا ننتمي لأمة العرب، وهي أمة الشعر، وحضارتنا حضارة الكلمة والنص، ويشهد تاريخنا منذ القدم بشغف لا يخفي علي أحد بابتداع الألفاظ واختراع الكلمات، والذي جاء باليقين علي حساب تراكم المعاني والأفكار والدلالات. وبخلاف عامل اللغة وثراء العربية في معانيها ومترادفاتها، فباليقين أن هذا الكم المتراكم من المصطلحات غير المنضبطة يزداد أيضا كل يوم غموضا وإبهاما بفعل عامل آخر هو حالة المراهقة السياسية التي نعايشها والتي أدمن الغارقون فيها إنتاج صور مشوهة لأيديولوجيات قديمة، ما بين متلبس بمسوح علمانية مراهقة يصدح بها ولا يفهم معني من معانيها وآخر متلفع بمرجعية دينية بدعوي اقتدائه بالسلف الصالح وهو لا يعرف ولا حتي النذر اليسير عنهم، وكلما ازداد المصطلح السياسي غموضا ازداد معه كثير من أبناء هذا الشعب نفورا من السياسة والساسة وحوار الطرشان الذي ملأ الساحة ضجيجاً، فكل يغني علي قيثارته لليلاه منفردا، فهذا تيار يحلو له أن يسوي بين العلماني والليبرالي ويراهما في حقيقتهما طيفا واحدا لا يتجزأ، بينهما قسيم مشترك هو الخروج علي الدين والكيد للمسلمين، وذاك تيار لا يستطيع بمراهقته الفكرية اكتشاف الفرق البين بين الإخواني والسلفي رغم اختلاف مشاربهما ومدارسهما بل أئمتهما، ويصر مهما أزجيت له النصح علي أن يجمع بين الإسلاميين من إخوان وسلفيين وجهاديين وتبليغيين وغيرهم في سلة واحدة، بل حتي الفرق القديمة الواضحة المعالم مثل الصوفية والشيعة ارتأي بعض مدعي العلم التسوية بينهم مع أن المختلف بينهم أضعاف المتفق عليه، ولا يربطهم سوي وشائج حب آل بيت المصطفي صلي الله عليه وآله . نحتاج إلي أن نقول لمن يريدون أن يقدموا أنفسهم كمفكرين ومنظرين لهذه المرحلة: قليلا من الاعتدال وكثيرا من البعد عن التقعير الخالي من المعني، وليكف الجميع عن استحضار أشباح الأفكار والمصطلحات التي أكل الدهر عليها وشرب، وعاني أصحابها قديما في فهمها وتسويقها، والآن يعود البعض لإحيائها ليتلبسوها أو ليلبسوها لغيرهم قسراً وعنوة، والغريب أن جلهم لا يدركون حتي أدني معاني ما يستخرجونه من بطون الكتب.