نماذج تستحق التقدير والاحترام، قدمت الكثير من التضحيات، وكما نقول وراء كل رجل عظيم امرأة، كذلك وراء كل بطل شهيد أم أنجبته ليكون حارسًا لتراب الوطن، لم يبخلن بفلذات أكبادهن ليكونوا فداء لمصر ليسود الأمن والأمان بتصديهم لكل الجبهات التى تريد النيل من الوطن، ومحاربة الإرهاب داخليًا وخارجيًا. «روزاليوسف» التقت أمهات وزوجات الشهداء ليسردن لنا بطولات وحياة ذويهم الشخصية ليقتدى بهم الشباب، ويتعلم سيرتهم الحميدة وعزمهم على مواجهة الصعوبات وتحقيق المستحيل حتى نيلهم الشهادة. أطلقوا عليها «أم الصابرين» ولقبوا ابنها ب«الشهيد الحى» لأنه عاش ثلاث سنوات بعد إصابته فى أحداث «فض اعتصام رابعة المسلح»، لا يتكلم، لا يشعر سوى بالألم. إنها وفاء السيد إبراهيم البقرى، والده الشهيد مصطفى يسرى، التى التقتها «روزاليوسف» لنسمع منها حكايات عطرة وقصصاً من حياة الشهيد، وقد أكدت لنا خلال حوارها «أن حق ابنى لن يضيع هدرا، ما دام هناك أبطال يستكملون المسيرة لإنقاذ الوطن من الإرهابيين». وإلى نص الحوار. ■ حدثينا عن علاقتك بنجلك الشهيد؟ - ابنى مصطفى من مواليد 18 يوليو 1989، وهو الابن الكبير، وأخوه أحمد يعمل ضابطا أيضا، وابنتى سلمى تدرس بكلية الإعلام، ارتبطت بأولادى بدرجة كبيرة، وكنت بمثابة الصديقة والأخت الكبرى، أشاركهم أحزانهم وأفراحهم، فالشهيد منذ أن كان عمره 4 سنوات يتمنى أن يصبح ضابطا اقتداء بوالده الذى كان رئيسا للشعبة المالية بالقوات الجوية، وكان مصطفى متفوقا فى دراسته فحصل على 99% فى الابتدائية، و98% فى الإعدادية والثانوية، والتحق بالهندسة فى نفس الوقت الذى قدم أوراقه بالفنية العسكرية والشرطة، وطلبت منه الالتزام بكلية الهندسة لحين القبول بالشرطة، وحضر محاضرة واحدة وظهرت نتيجة قبوله بالشرطة، وبعد تخرجه عمل بقطاع العمليات الخاصة ثلاث سنوات، وكنت لا اعلم شيئا عن طبيعة عمله، إذ سافر بمأموريات كثيرة فى سيناء والعريش وغيرهما. ■ ماذا عن طباع الشهيد مصطفى؟ - كان يتصف بالأدب الجم وحسن الخلق، حافظا للقرآن، واصلا للأرحام، وأتذكر أن أول راتب له أعطى منه لجدته مائة جنيه، وكل واحدة من خالاته 50 جنيها، وكذلك جدته لأبيه أعطاها مائتى جنيه، وكذا عماته أعطى كل واحدة منهن100 جنيه، وعندما سألته عن سبب التفرقة، فقال: «يا أمى إن جدتى لوالدى وعماتى عَصب» ومن نعم الله على ابنى أنه أدى العمرة قبل استشهاده بشهرين، وتذكر الجميع بالهدايا، وعندما ذهبت لاستقباله أشاد المعتمرون المرافقون له فى الفوج بحسن أدب ابنى لمعاونته للجميع وأطلقوا عليه «خادم المعتمرين» إذ إن خادم القوم سيدهم. ■ صفى لنا كيف قضى الشهيد أيامه الأخيرة فى الأسرة؟ - فى الفترة الأخيرة شعر ابنى بأن أجله قد حان، وأصر أن يذهب مع والده ليشترى له ملابس، وأخبره بأنها هدية عيد ميلاده، فرد والده: لسه فاضل شهر، فقال مصطفى: أحب أن أعطى لك هديتك مقدما يا ترى مين يعيش!» وقبل الحادث بيوم طلب منى ابنى إتمام خطبته، وكانت عائلية للغاية بسبب حزنه على استشهاد زميليه «جودة» و«سمير»، وعند مغادرة منزل العروس طلب من والدها رقم هاتفها فتعجب والد العروس فرد ابنى: «أقسمت بينى وبين نفسى أننى لن آخذ رقمها إلا عن طريقك فللبيوت حرمة». فقال والدها: «هو فى ناس محترمة للدرجة دي»، وعندما أنهى مكالمته معها دعابته وقلت: «كنت بتكلم مين يا حبيبى» فاحمرت وجنتاه ونظر إلى فى استحياء وقال: «خلاص يا ماما». ■ ماذا عن ليلته الأخيرة بالمنزل؟ - فى آخر ليلة مكث طويلاً مع إخوته يتسامرون، فقلت له: لازم تنام بدرى عشان شغلك، وجهزت حقيبته، وعند الإفطار أيقظت إخوته وقلت دون أن اشعر: تعالوا نفطر مع أخوكم يا عالم هنفطر تانى إمتى مع بعض، وعلى غير العادة ساد الهدوء والصمت، وظل كل منا ينظر للآخر، ولَم ينطق الشهيد بكلمة أو دعابة على غير عادته، وغادر وهو يوصينى على نفسى وأبيه وإخوته. فقد كنت أشعر أن شيئا ما سيحدث ولكن حاولت تناسى ذلك الإحساس، فقد غادر مصطفى المنزل فى الْيَوْمَ الثانى لفض اعتصام رابعة، وفجأة هاتفتنى خطيبته، وقالت :إنه كلمها أمس وانهى الاتصال للجلوس مع إخوته، وسألتنى عما إذا كنت اتصلت به، فرددت بالنفى، وبداخلى أوهام ووساوس عن مغادرة ابنى وذهابه للمأمورية، وعقلى الباطن يشعرنى بأنها كنت المرة الأخيرة التى أودع فيها ابني، فأنا لم استطع أن أقول له ابقى معنا وكأن شيئا ألجم وربط لسانى وتسمرت قدماى على الأرض فلم استطع حتى توديعه من الشرفة مثل كل مرة. ■ كيف تلقيت خبر إصابة البطل؟ - يومها جاء والده من صلاة الجمعة مسرعًا شاحب الوجه حزين، وأخبرنى بأنه شعر بشىء يدب فى صدره، وقبضة أثناء سجوده، وقال: أنا خايف على مصطفي، فاتصلت به عدة مرات ولم يرد، وفِى الأخيرة رد زميله وقال إن مصطفى عند القائد يأخذ التعليمات للخروج للمهمة، بعدها اتصلت أختى فأعلمتها بما حدث، فطلبت منى معاودة الاتصال وكأنها تعلم شيئا وتخفيه عني، وبالفعل عاودت الاتصال فرد أحد زملائه بأنه أصيب فى قدميه، وتوجهت مسرعة مع والده لمستشفى المعادي، وعبرنا الكمائن خلال ساعات حظر التجوال ببطاقة عمل زوجى ولكن لم نستطع رؤيته. فقد أصيب مصطفى بثلاث طلقات فى الفك وأحدثت تهتكا شديدا، كما أصابت أخرى قدمه، ودخل غرفة العمليات فى الْيَوْمَ التالى وهو يعى كل شىء حوله، وكان يتواصل معى عن طريق الكتابة، فسألنى مداعبا: «أكيد يا أمى شكلى بقى غلط» فقلت له: «يا حبيبى أنت زى القمر». وخرج ليستقر فى العناية المركزة، ولم نتركه طوال الثمانية أيام، وكان هو من يصبرنا رغم حالته السيئة وتحمله الآلام. ■ ماذا قال عنه أصدقائه؟ - عندما زارنى زملاؤه بعد إصابته كانوا يقولون بالحرف الواحد مصطفى مش من أهل الأرض ده ملاك يعيش بيننا، ومن أبرز الأشياء التى قيلت عنه :إن ابنى كان يشترى مجموعة من المصاحف وسجاجيد للصلاة ولا يذهب أى مكان إلا ويترك به المصاحف، سواء فى المأموريات أو الكمائن لينتفع بها الآخرون، وبعد استشهاده بشهرين فتحت سيارته ووجدت رائحة مسك تغمر المكان ومصاحف وسجاجيد للصلاة، ومن الغرائب أن أختى اتصلت بى فى ذلك الْيَوْمَ الذى عثرت فيه على المصاحف وقالت: إن هناك مسجدا بنى حديثاً ويريد مصاحف فأدركت أنها رسالة بأن ابنى يتصدق وهو ميت على نفسه. ■ ما الذى يرد على بالك عندما تتذكرين الشهيد؟ - عندما أفكر فى ابنى يراودنى يقين داخلى أن دمه لن يروح هدرا، مادام هناك أبطال يتصدون للإرهاب ويحمون مصر، وأتمنى أن يتم الإعلان عن بطولات ابنى وأنه كان سببًا فى إنقاذ فرقته، فيوم استشهاده تأخرت المدرعة فأصر أن يسبقها فتلقى الطلقات الأولى لينتبه زملاؤه لوجود الكمين أعده الإرهابيون. ■ ماذا تقولين «للسيسى» بعد فوزه بالرئاسة لولاية ثانية؟ - أعانك الله وسدد خطاك، أنت تستحق عن جدارة أن تكون رئيسًا لمصر، ويجب على الشعب المصرى أن يتكاتف للوقوف وراء القيادة السياسية، لاستكمال مسيرة التنمية الاقتصادية والإصلاحية، وأن ندعو لجنودنا الأبطال أن ينصرهم الله.