ثورة "25يناير" التي ولدت في أحضان ميدان التحرير بوسط العاصمة، وسط عماراته التاريخية الحاملة لجزء كبير من تاريخ مصر الحديث، وعلي الجانب الآخر المتحف المصري قبلة زائري المحروسة والباحثين في علم المصريات، يرقبه من الطرف الآخر أسدا كوبري قصر النيل بشموخهما ويقابله مجمع التحرير متماسا مع مبني الجامعة الأمريكية، هذا المشهد البانورامي، الذي لن تنساه الذاكرة البصرية للعالم، أبرز ما فيه كان غياب اللوحات الإعلانية التي طالما أفسدت الرؤية لهذا الميدان العريق، إزالة هذه اللوحات جاءت بقرار الجهاز القومي للتنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة المصرية وقلعة صلاح الدين منذ عام 2004 بعد قرار إنشائه في 2001، يهدف إلي تحقيق القيم الجمالية في الفراغ العمراني المصري، فهو الجهة المنوطة بجميع الأعمال القائمة علي أهداف تحسين الصور البصرية للمدن والقري والمجتمعات العمرانية الجديدة، وكذلك إزالة جميع التشوهات والتلوث البصري والحفاظ علي الطابع المعماري والعمراني للمناطق المختلفة، وتحقيق القيم الجمالية للعمران المصري بشكل عام بما يشمله ذلك من طرق وميادين وشوارع وحدائق وفراغات عامة ومبان عامة وذات قيمة متميزة. في 20 من أبريل الماضي أقيمت احتفالية لاعتماد حدود ومعايير الحفاظ علي المناطق التراثية والمتميزة بمحافظة القاهرة، وهي مناطق المعادي والقاهرة التاريخية والخديوية ، نظمتها جمعية محبي الأشجار بحي المعادي إحدي مؤسسات المجتمع المدني، بمشاركة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري ، في نموذج مثالي للتعاون والتكاتف بين المجتمع المدني والمؤسسة الحكومية للحفاظ علي أجمل مناطق القاهرة من حيث التراث المعماري المتميز والأشجار الكثيفة التي تميز ضاحية المعادي دون غيرها . جهاز بهذه القيمة من المهم تفعيل دوره مجتمعيا أكثر، لذا توجهت "روزاليوسف" لعدد من المعماريين لتقترب من رؤيتهم لأداء الجهاز وأفكارهم، أو مقترحاتهم لمزيد من التفعيل لدوره وتحسين أدائه، خاصة أنه يملك موقعا إليكترونيا باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية يعمل بكفاءة ويقدم جميع المعلومات عن الجهاز، إضافة لتحديثه المستمر بآخر أخبار الجهاز. المعماري سيف أبوالنجا رئيس اتحاد المعماريين الأفريقي وأحد أصحاب فكرة إنشاء الجهاز القومي للتنسيق الحضاري حينما كان أمين مؤتمر "الثقافة والعمارة" 1994م، حيث أعلن عن الفكرة خلال التوصيات في ختام المؤتمر، قال عن تقييمه لأداء الجهاز واقتراحاته لتطويره: الجهاز فكرته نادرة وليس له مثيل في العالم لأنه ببساطة أنشئ ليحافظ علي العلاقات بين العمارة والتخطيط والحضر والإعلانات، وتأتي أهمية الحفاظ عليه من أنه يعوض مصر عن الأجهزة الفقيرة في الفكر المعماري والجمالي كالمحليات وجهاز المحافظة. لكن مشكلة هذا الجهاز أنه لا يملك سلطات حقيقية، فمن حسن الحظ أن قامت ثورة " 25 يناير" بعد إزالة الإعلانات بشهر واحد، والتي تمت بعد مجهود عنيف من حيث صدور قانون 119 في 2008 أي بعد إنشاء الجهاز بقرابة السبع سنوات، وهذا القرار تم تنفيذه بعد صدوره بعامين وآثار مشاكل عدة وقتها مع شركات الإعلانات!!". في سياق الحديث أكد أبوالنجا علي نجاح فكرة القانون والاستعانة بأساتذة الجامعة علي المستوي النظري، إنما علي المستوي العملي فيقول: هناك مشكلة في هذا الجهاز وهي اختيار الأشخاص واللجان والأجهزة التنفيذية غير المتسقة أوالمتناسقة، فلابد من إعادة توزيع الطاقات والخبرات، كذلك الاستعانة بالخبرات العملية إلي جانب الأكاديمية. أعتقد من المفضل أن القائم من الجهاز بالعمل علي منطقة من المناطق أن يكون من أبنائها، لأنه ببساطة ستكون لديه حساسية بالمكان..فالعمارة هي حس وفلسفة جمالية في المقام الأول. ولخص أبوالنجا اقتراحاته التطويرية في منح الدولة سلطات أكثر للجهاز، كذلك الدعوة نحو عمل كادر خاص للعاملين بجهاز التنسيق الحضاري لتحسين الرواتب بما يحقق الاكتفاء الاقتصادي لهم، كما دعا لتحسين أنظمة الاختيار وفق متطلبات مناطق العمل، وفي نهاية حديثه أكد قائلا: الجهاز التنفيذي ممكن أن يكون له رواتب ثابتة، لكن الحل البديل هو تكوين لجان استشارية بمكافآت مناسبة والتي لابد أن تقدم تقارير واضحة محددة ومصحوبة بصور للمباني المقصودة، لضمان تطبيق قرارات اللجنة بالشكل المطلوب الذي أتوا من أجله". الدكتور عباس الزعفراني أستاذ مساعد بكلية التخطيط العمراني جامعة القاهرة قال: الجهاز في هذه الفترة أوقف تدهور العديد من المباني، وأضاف أشياء جيدة، والأهم الآن هو الحفاظ علي المباني التاريخية، أو المناطق التاريخية، مثل العمارة التي كانت ستقام 60 دورا بجانب القلعة لتكون فندقا، أيضا مباني عديدة بوسط البلد وفي مصر الجديدة كانت ستهدم، فالآن ممنوع بناء عمارة في وسط البلد بواجهة زجاجية أو 10 أدوار، بالإضافة إلي التفاعل مع الوزارات الأخري والمحافظين والمحليات، فالمشكلة أن كل محافظ متعجل دوما حتي يأتي الرئيس ليفتتح في العيد القومي أو ما شابه فكان هذا في العهد البائد، وأتمني أن تتغير هذه النظرة، فيكفي المهازل التي قام بها سمير فرج في الأقصر، أما سمير غريب فأصر علي إزالة الإعلانات من ميدان التحرير وتعاون معه محافظ القاهرة، بالتالي كان الميدان شكله رائع بعماراته التاريخية الرائعة". في تقييم المهندس طارق المري استشاري الحفاظ علي المباني والمناطق التاريخية لأداء الجهاز في الفترة الماضية: جهاز التنسيق الحضاري يلعب دورا مهما تبلور عبر السنوات السابقة بصدور تشريعات خاصة به، التي أسهمت في درجة من الوعي علي المستوي الشعبي حيث بدأ الناس يدركون قيمة بعض المباني في بعض أنحاء الجمهورية، الذي أكدها صدور قائمة للمباني التاريخية ذات القيمة المعمارية علي مستوي الجمهورية، هذه القائمة تضم مباني ذات قيمة مثل قصر عابدين حتي مبان صغيرة تكاد تكون بالنسبة للعامة ليست ذات قيمة عالية يتراوح مسطحها من 60 إلي 100 متر. سألت المري عن اقتراحاته لتفعيل أداء الجهاز أكثر ل"مصر الجديدة"، فأجاب: أعتقد أنه علي الجهاز أن يكون أكثر تفاعلا مع المجتمع، من خلال تقديمه لخدمات بديلة للمنع من الهدم حتي لا يتحول المبني إلي وقف، كخدمات استشارية لأسلوب صيانة المبني أو خدمات دراسة جدوي في كيفية الاستغلال الأمثل للمبني اقتصاديا، وأن يقدم للمحتاج من الملاك تسهيل الحصول علي قروض مثلا من صندوق التنمية الاجتماعي لتطوير المبني أو لصيانته، ولو بمقابل بسيط قد يتحمله المالك وقد يتحمله الجهاز "الممول"، فمعظم ملاك هذه المباني التاريخية من شريحة محدودي الدخل، فعلي سبيل المثال هناك جهاز مشابه لجهاز التنسيق الحضاري ببلجيكا يطلق عليه monument watch يقدم خدمة استشارية بمقابل زهيد سنويا لملاك المبني التاريخي مع ضمان الصيانة الدورية بعد فحص المبني، بهذا تحول المبني من لعنة إلي مصدر دخل جيد واكتسب قيمة اقتصادية". توجهت "روزاليوسف" حاملة هذه المقترحات للدكتورة سهير حواس رئيس الإدارة المركزية للجهاز القومي للتنسيق الحضاري، لنبدأ معها بمقترح المري حول تقديم خدمات بديلة للمواطنين ملاك العمارات التاريخية من شريحة محدودي الدخل، فأجابت حواس: لدينا بالفعل إدارة "المشاركة الأهلية" ودورها ربط المجتمع المدني بالجهاز، إما من خلال توجهنا للمؤسسات المدنية للمساعدة وندوات التوعية بالتنسيق الحضاري ونشر ثقافته، أو العكس أي اهتمام الجمعيات الأهلية بطلب المشورة أو المساعدة في كيفية الحفاظ علي نسق المنطقة في حال إنشاء دورات مياه عامة فنقدم لهم الدليل الإرشادي المناسب الذي أعده الجهاز، لضمان إنشاء المبني كما يتسق والوجه العام للمنطقة". وأضافت حواس: أعلم أن الشارع المصري لا يعرف عن الجهاز وهو ما لانأسف له، لأن الجهاز من البداية ليس جهازا جماهيريا بمعني أن عملنا غير مرتبط ارتباطًا مباشرًا بالمجتمع، وذلك لأنه علي المدي الطويل يجب ان يكون في مصر جهة رقابية ترصد كل التعديات والمشاكل المعمارية، إنما لو تحولنا لجهاز جماهيري خدمي ربما في الوقت اللاحق نتساوي مع المحليات. في رد حواس علي مقترح أبوالنجا بشأن الاستعانة بالخبرات العملية إلي جانب الأكاديمية أوضحت أن الجهاز يقوم بعمل مشروعات صغيرة بمثابة نماذج لبقية المشروعات الكبيرة، مشيرة إلي أن هذا المقترح لا يدخل ضمن اختصاصات الجهاز والذي يعد نوعا من التشتيت لأعمال الجهاز، مؤكدة أن ميزانية الجهاز أيضا لا تسمح، وجاءت هذه النقطة هي نقطة الانتقال لمقترح أبوالنجا الثاني بشأن تعديل الأجور وعمل كادر خاص بالجهاز بما يحقق استقرارا للعاملين وهو الأفضل لعمل الجهاز، لتؤكد حواس أنه بالفعل الأجور المخصصة لكبار الخبراء الذين يتعاونون مع الجهاز من الخارج أو حتي من هم بالجهاز لا يعد عامل جذب لضعف المقابل المادي. وحول أهمية زيادة السلطات للجهاز بغرض منحه مزيدا من القوة تقول حواس: لا نحتاج مزيدا من السلطات، فالتشريعات بالفعل موجودة، فما نحتاجه حقا هو الالتزام بالقانون وعدم التحايل عليه، وهو ما نفعله حاليا من تجديد المخاطبات للمحافظين الجدد لتوجيه انتباههم نحو أسس التنسيق وشروط حماية المناطق بغرض وضع جهاز التنسيق في الأولوية الأولي. فمنذ الثورة كم مبني تم التعدي عليها وكم مبني تم هدمه والذي شجع عليه حالة الانفلات الأمني، وهو ما يعد جريمة لابد من المحاسبة عليها، كذلك أتمني تفعيل الرقابة الذاتية لأنها الأهم". عن خطة الجهاز في الفترة المقبلة، تقول حواس: "نحن مستمرون في عملنا كما نحن، رغم أن هناك معوقات كثيرة، وأعتقد أننا في هذه المرحلة الجديدة بحاجة لمزيد من التفاعل مع الوزارات والمحافظات والمحليات أيضا، كما أننا حريصون علي مشروع "المرصد الحضاري" الذي يحمي من التعديات والمخالفات، بالإضافة لمشاركة الجهاز مع الشباب والائتلاف والمعماريين في صياغة جماليات ومبادئ "ما بعد 25 يناير" وبخاصة ميدان التحرير وذلك من خلال مسابقة تحقق المنافسة الإبداعية. أيضا تكثيف الوعي الحضاري حيث بدأنا بعدد من الندوات المفتوحة، ونجهز حاليا لمؤتمر كبير لتنشيط دور التنسيق الحضاري ودور الشعب معه، فنحن نحتاج أن تصبح بلدنا علي نفس مستوي ثورتها، ولم نغفل تنشيط المجتمع المدني ومساعدته الذي نضع كل امكانياتنا تحت تصرفه".