قصيدة : وليد الزهيرى ملئت "صابرين" سلتها البلاستيكية بآخر قطعة من غسيلها، استقامت في وقفتها واضعة يديها خلف ظهرها أعلي الحوض وهي تميل للخلف بجزعها متأوهة، أمسكت بجانبي جلبابها ورفعتهما عن الأرض قليلاً لتسكنهما ما بين ملابسها الداخلية وجسدها، انحنت لأسفل مرة أخري ممسكة بسلتها مهرولة إلي الشرفة المطلة علي الشارع بالطابق الثاني وهي تحبس أنفاسها من ثقل سلة الغسيل ... الأخف ثقلاً من همومها. يخلو الشارع في هذه الساعة الباكرة من نهارٍ صيفي إلا من بعض المارة وعصفور يقف علي أحد أسلاك "عامود النور" المجاور لشرفتها، تأملت عصفورها دائم التردد عليها كل صباح ربما للاستراحة أو لإلقاء تحية الصباح، رسمت علي وجهها ابتسامه بشوشة ملوحة له بيدها: صباح الخير. هبط إلي أحد أسلاك الكهرباء الأدني من الذي يقف عليه في مناورة منه خوفاً من أن تكون تهدده، تنقل صعوداً وهبوطاً علي بقية الأسلاك عندما اطمأن إليها كأنه يتنقل علي أسطر نوتة موسيقية يعزف سلمه الموسيقي الخاص به مغرداً بأنشودة الصباح، أمسكت بقطعة قماش بالية مبللة، وضعتها علي بداية أقرب حبل غسيل لشرفتها ومضت لأقصي الشرفة ممسكة بالحبل في وسط قطعة القماش حتي نهايته وانتقلت إلي الحبل الذي يليه خارجاً إلي أن انتهت من تنظيف حبال غسيلها المقوسة لأسفل والمترهلة ... كتلك الهالتين السوداوين المترهلتين أسفل عينيها. هبط عصفور آخر بجانب وليفه مغرداً ومتبادلا معه جملاً من الغرام أعقبها تلاقي منقاريهما ورحلا بعيداً ... وضعت "صابرين" ساعديها واحداً علي الآخر فوق سور شرفتها متكئة بصدرها علي ساعديها مستذكرة عامها الخامس والثلاثين دون وليف يؤنس وحشتها، مكتفية بمشاهدة الدنيا من شرفتها دون التوغل في أحراشها، لا تري منها إلا ما تشاهده خلف حبال غسيلها الأشبه بالقضبان. وضعت مشبكاً للغسيل في فمها والآخر بيدها ممسكة بجلباب والدتها عصرته ونفضته في الهواء بقوة محاولة نفض همومها عنها، بدأت بأول حبل من الخارج مستمرة في نشر غسيلها متذكرة كل من دقوا علي بابها. هذا أراد خطبتها كي تعيش مع أمه لتخدمها، وخطيب اضطرته المخدرات أن يستعيد "شبكته" من أجل مزاجه، وذاك اشترط أن تسافر معه لبلد عربي لتعمل معه في عمل مجهول الهوية، وآخر طلبها كزوجة ثانية يأتيها في بيت أمها في غفلة من زوجته الأولي، وآخر أراد اغتنام فرصة أم عجوز أوشكت علي المنية وابنة لن تبخل عليه بمجهودها حتي تعوله بدلاً من أن يعولها... وضعت المشبك بآخر قطعة نشرتها من ملابسها الداخلية التي كانت تحتفظ بها في "جهاز عرسها" . تركت شرفتها خلفها متوقفة أمام مرآة بوسط حجرتها في زاويتها اليسري العلوية صورتها وهي في العشرين، شاهدت في المرآة ما يختبئ أسفل جلبابها المبلل بماء الغسيل الملتصق بجسدها، وضعت سلتها جانباً وزادت من إحكام جلبابها علي مفاتنها متمايلة يميناً ويساراً مقارنة بين جسدها المترهل اليوم وبين ذاك القوام المشدود بالصورة: أين ذهب هذا الجسد؟ ضاع هباءً دون أن أشعر بيد تسعي خلف مفاتنه وأهبه جسدي؟ ألم تثر مفاتني المتأججة تلك أي رجل؟ هل ملامح وجهي الدائرية السمراء الممتلئة تفتقر لمقومات الجمال؟ جرت دمعة علي خدها متذكرة كلمات تندر بها البعض همساُ كلما نزلت للشارع "طلعت فوق السطوح هز الهوا كُمي ... كل البنات تتجوز وأنا قاعدة جنب أمي". سمعت صوتاً خافتاً متهدجاً من الحجرة المجاورة: صابرين، صابرين. مسحت دمعتها بظهر يدها: جاية يا ماما. تطلعت الأم لجسد ابنتها المبلل، وغضت بصرها عنها قائلة: شوفت منام، ربنا يجعله من حدك ومن نصيبك. جلست "صابرين" بجوارها علي السرير، منتقية من علي المنضدة الجانبية لسرير أمها علبة دواء "الضغط" وفتحت غطاءها: خير؟ شوفت راجل طول بعرض، بدر منور، بيخبط علي بابك. ابتسمت ساخرة، وهي تناول أمها حبة دواء الضغط مع كوب الماء: محدش بياخد غير نصيبه. ربنا يهدي سرك يا بنتي؟ وضعت إبرة الأنسولين في ذراع أمها: ربنا يخليكي ليا يا ست الكل. تابعتها أمها بعينيها وهي تتباعد في طريقها نحو مطبخ، متألمة من كل هذه المواد الكيمائية التي تشبع بها جسدها الهزيل، ولم تعد المسكنات قادرة علي إسكات آلام حسرتها علي ابنتها، لا تشغلها النهاية المحتومة لأمراض الشيخوخة. عادت صابرين لشرفتها قبل مغيب الشمس، حررت ملابسها الداخلية من مشابكها ... أضاء مصباح "عامود النور" المجاور لشرفتها ليحجب "طربوش" المصباح ضوءه عن شرفة "صابرين" وتبقي دائرة الضوء منحصرة أسفل شرفتها، مارست هوايتها الوحيدة بمتابعة كل من يمر داخل دائرة الضوء الساقطة علي أرض الشارع. جارتها ذات الثمانية عشر عاماً تتأبط يد خطيبها سعياً خلف نزهة نيلية في نهاية الأسبوع، وثانية قادمة لزيارة أهلها ممسكاً بذيل فستانها طفلها الأكبر والأصغر علي يديها، وثالثة ينزلها زوجها من علي "فيسبا" وتواعده علي أن يعود إليها يأخذها من بيت ذويها بعد قضاء أمسيته مع رفاقه بالمقهي ليتمما سهرتهما مع عائلتها، كلهن تزوجن أو ينتظرن. رأتهن جميعاً أسفل شرفتها داخل الدائرة الضوئية، وبقيت هي في الجانب المظلم منها خارج دائرة ضوء "فتيان الأحلام" ... لملمت غسيلها مثلما لملم الزمان سنوات شبابها ... مغلقة عليها باب شرفتها.