كتبت كثيرًا منذ سنوات مقالات عديدة أطالب فيها بأهمية إحداث طفرة فى المناهج الدراسية التى لا تتناسب بأى درجة من الدرجات مع مسيرة تطور البشرية.. حيث مازال أطفال جيل «الكمبيوتر» والإنترنت يدرسون «البساط السحري» و«مصباح علاء الدين» و«الأرنب كوكي» الذى ركبه الغرور.. فرفض اللعب مع أخوته «موني» و«سوني».. بينما الأطفال فى المدارس الأجنبية الذين يماثلونهم فى العمر يدرسون مسرحيات «شكسبير» باللغة الإنجليزية. أما دروس اللغة العربية التى تحض على العنف.. فبالإضافة لقصة «عقبة بن نافع» المليئة بالمذابح.. وقصة «صلاح الدين الأيوبي» فقد لفت النظر إلى أحد النصوص المقررة على الصف الأول الثانوى كتب فى مقدمته «كان عمر بن هند» ملك الحيرة طاغية متكبرًا فقال لمن حوله.. أتعرفون أحدًا من العرب تأنف أمه من خدمة أمى؟! فقالوا لا نعلم إلا «ليلى بنت المهلهل» حيث إن ابنها عمرو بن كلثوم» سيد قومه.. فأرسل الملك إلى «عمرو» وأمه يدعوهما إلى زيارته فى قصره.. وأوعز الملك إلى والدته أن تستخدم «ليلى» فى قضاء أمر من الأمور رغبة فى إذلالها.. فلما بدأ الحفل طلبت أم الملك من «ليلى» أن تناولها إناء فقالت : لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها.. فلما ألحت عليها صاحت : واذلاه.. فسمعها ابنها «عمرو» فقام من توه وتناول سيفه وقتل الملك وعاد إلى الجزيرة وكتب معلقته. سألت ابنتى وأنا أراجع معها القصيدة مختبرًا: ما الذى يدل عليه هذا الموقف؟! فأجابتنى : يدل على أن «عمرو بن كلثوم» هذا فشار.. ده كلام أونطة.. محصلش.. إزاى واحد يقتل الملك فى قصره وبين حراسه ويهرب من غير ما حد يمسكه؟! هى سايبة؟! قلت محاولا مداراة ارتباكى ! مش ده المهم.. المهم أن ده تأكيد أن المشاعر كان يمتاز بالشجاعة والإحساس بالقوة والتفاخر والكرامة. قالت فى استنكار : كرامة وشجاعة إيه؟! ده مجرم وارهابي.. ده سفاح ده.. ولا شاعر؟! لم أجد صدى ملموسًا لما كتبت وكتب غيرى خاصة أنه كانت لى تجربة منذ سنوات أبعد من خلال فيلم تليفزيونى هو «محاكمة على بابا» الذى كتبت له السيناريو والحوار.. وناقشت من خلاله رفض طالب حفظ أشعار «البحتري» و«أبو تمام» اللذين ينافقان الحكام بالمديح إذا أجزلوا لهما العطاء.. وينقلبان إلى شتامين يهجونهم هجاء قاسيًا إذا ما كفوا أيديهم عنهما.. وقد عقد بعد عرض الفيلم مؤتمر عام لمناقشة المناهج.. وتطويرها.. لكنه للأسف لم يسفر عن شىء على الإطلاق.. أما الاستجابة الوحيدة التى تمت فى الفترة الأخيرة من اللغط الكثير المثار حول المناهج واكتشاف الكثير من الآراء المتطرفة بها.. والتى تؤدى إلى شيوع العنف.. فقد لاحظت أن الملفات التى تطرح طرق علاج هذه الأخطاء لم يسع من خلالها السادة الجهابذة المسئولين سوى إلى الحذف وليس الاستبدال.. فقد تقرر مثلا حذف درس «الطيور فى خطر» من منهج اللغة العربية للصف الثالث الابتدائى الذى جاء به أن الطيور قامت بإغلاق الخيام.. وأشعلت النيران فى الصقور حسب الخطة.. وبعد اكتمال الخطة أنشدت العصافير «بلادي.. بلادي» كما تم حذف درس «صلاح الدين الأيوبي» بمنهج اللغة العربية للصف الخامس الابتدائى رغم تدريسه بالفعل.. وتقول إحدى المدرسات معلقة على ذلك أن ذلك الحذف يتم دون تفكير من باب «أى شىء يثار حوله ضجة.. ريح دماغك واحذفه» خاصة أن الدكتوره «ثناء جمعة» مدير مركز تطوير المناهج صرحت فى الصحف لتنفض يديها من هذه المهمة الثقيلة أنه تم اتخاذ قرار بحذف جميع الدروس التى تحض على العنف. والحقيقة أنه ليس بحذف الدروس غير المناسبة يتم تطوير المناهج.. المركز الذى ترأسه السيدة ثناء اسمه «مركز تطوير المناهج» وليس مركز «حذف دروس من المناهج».. والمفهوم من تصريحها أن خطتها قائمة على الابتعاد عن أى دروس قابلة للتأويل لتغلق كافة الفرص أمام حدوث حالة من الجدل.. وكأن الجدل شىء ذميم ينبغى التخلص منه.. وهذا يكرس لنكبة التعليم فى مصر القائم على التلقين والحفظ وترديد ما تم حفظه كالببغاوات دون اجتهاد فى الاستنتاج والاستنباط والاستقراء والبحث والمناقشة.. وتبادل وجهات النظر والحوار حول القضايا المثارة.. وهذا معناه الجمود وعدم إعمال العقل.. والاستسلام للمسلمات وقوالب التعبير المتحجرة.. مما يؤدى فى النهاية إلى إلغاء الرأى والرأى الآخر.. وتدمير حرية التعبير.. والقضاء على أى تطوير.. وشيوع الاستبداد والإرهاب. ثم إنه أليس من الغريب أن الذين يضعون المناهج الدراسية المختلفة لكل المراحل التعليمية من مفتشى وزارة التربية والتعليم؟!.. أنا لا أعرف سببًا منطقيًا حتى الآن لعدم الاستعانة مثلا بالشعراء الكبار أو نقاد الأدب المتخصصين لوضع مناهج النصوص والبلاغة.. والأدب وعدم الاستعانة بالأطباء النفسيين أو أساتذة علم النفس لوضع منهج «علم النفس».. ولا لفيلسوف معروف لوضع منهج الفسلفة.. وأستاذ علم اجتماع لوضع منهج علم الاجتماع وهكذا. لا تحديث إذن بدون إعادة النظر فى المناهج بشكل كلي.. ولا تطوير دون نسف المسلمات العتيقة وأهمها تعمد إقصاء المتخصصين. يقول فى هذا الاتجاه «د. طه حسين» ضمن مقالاته التى جمعها فى كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» فى الثلاثينيات من القرن الماضي.. وما زالت تنطبق على ما يحدث الآن : «حال التعليم عندنا منحطة.. ونظام التعليم عندنا منحط.. بل أستطيع أن أقول إن نظام التعليم عندنا غير موجود.. فإن النظام الموجود حقًا هو الذى يكفل الرقى لا الانحطاط.. والصلاح لا الفساد.. وأنا أزعم أن نظام التعليم فى مصر لا يكفل رقيًا ولا صلاحًا.. فالمشرفون على التعليم ليسوا من رجال التعليم وإنما هم قوم كلفوا أن ينظروا فى التعليم فقاموا بما كلفوا فى غير كفاية ولا إجادة.. وظهر ضعفهم فى أنهم أساءوا فهم التعليم فتورطوا فى الخطأ تلو الخطأ ونشأ عن هذا ما شوهد من سوء نتائج التعليم على اختلاف طبقاته من الوجهة العقلية والخلقية.. كما أنهم سلكوا فى إدارة التعليم السبيل التى يسلكها غيرهم فى إدارة الأموال أو إدارة الشرطة.. فلم يقدروا ما تحتاج إليه إدارة التعليم من روح الحرية والديمقراطية قدره بل كانوا مستبدين وكانوا مركزيين ونشأ عن هذا ما يصيب المعلمين من ضروب العبث والاستبداد.