نظرة واحدة علي تعداد إسرائيل بالنسبة لتعداد العالم العربي أجمعه بل وحتي بالمقارنة بتعداد مصر يثير العجب، السؤال الأزلي هو كيف يمكن لدولة تعدادها لا يتعدي ستة ملايين نسمة أن يكون وزنها السياسي والحربي والإنتاجي أقوي من مجموع أعضاء الجامعة العربية كلها؟ السبب الواضح أن النوعية أهم من العدد هذا بديهي ولكن يبدو أيضا أن المعني لهذه البديهيات غير واضح في ذهن المسئولين بما فيه الكفاية أو علي أقل تقدير غير واضح في ذهن الرأي العام بدليل أن هناك التباسا بين معني مشاريع التميز ومشاريع التنمية. مثال بسيط قد يوضح ما أريد أن أقول أفترض أن عدد سكان دولة من العالم الثالث هو مليون نسمة وافتراض أن هناك عشر مدارس وجامعة واحدة في هذه الدولة، المستوي المتدني في التعليم المدرسي والجامعي لهذه الدولة هو بدون تحفظ أساس التأخر للدولة هنا يأتي شخص حسن النية ويقترح زيادة عدد المدارس إلي عشرين مدرسة وعدد الجامعات إلي جامعتين وكل ذلك علي نفس المستوي المتدني، هذا هو مشروع تنمية قد ينجح في البداية لأن عدد أو تعداد الشعب ينمو إلي 2 مليون وربما نمت رقعة الأرض المزروعة وزاد عدد المهندسين الزراعيين والأطباء والحرفيين إلي آخره علي الرغم من ذلك أعلي مستوي للمعيشة في مثل هذه الدولة سوف يظل منخفضا بالمقارنة مع الدولة المتقدمة لأن التنمية في حد ذاتها لا ترفع والمعيشة من مستوي الدولة ككل قد يزداد عدد الأثرياء بل وقد تزداد الفوارق الاجتماعية ويكون لذلك أيضا تأثير كلي سلبي علي أوضاع الدولة واستقرارها. الحل الحقيقي يأتي عندما تبدأ الدولة في انشاء مدارس وجامعات متميزة. من التعليم المتميز تنشأ الصناعات المتميزة والقادرة علي التنافس العالمي، ربط مشاريع التنمية مع مشاريع التميز هو الذي جعل من الولاياتالمتحدة والآن الصين الشعبية دول عظمي في فترة قصيرة من الزمن، الحقيقة غياب ديمقراطية من النوع الغربي في الصين ووجوده في الهند ساعد الصين وأخر الهند في مشوارهم للتقدم إلي الصف الأول من الدول، من الأفكار المبسطة نستطيع أن نستنتج أن مشاريع مثل مشروع مديرية التحرير أو توشكي هي مشاريع تنمية ولكن لها فروعا للتميز والنتيجة النهائية تعتمد علي طريقة التخطيط والإدارة لمثل هذه المشاريع بالمقارنة مشروع شق طريق في الصحراء لتحويل العمار من وادي النيل الضيق المزدحم إلي براح الصحراء هو في المقام الأول مشروع تنمية وقد يبتلع تريليونات من الجنيهات قبل أن يأتي بالهدف الأساسي وهو رفع مستوي المعيشة والتعليم إلي مستوي الدول الأوروبية. علي النقيض من ذلك المشروع الذي اقترحته منذ ما يزيد علي 12 سنة وهو اقامة هيئة قومية لتقنية النانو. هذا المشروع العصري هو مشروع تميز هدفه الأول هو رفع مستوي الدخل والمعيشة في مصر واللحاق بدول العالم الأول عن طريق العلم. مشاريع التميز هي في صميم مهام وزارة البحث العلمي والتعليم العالي علي النقيض من ذلك مشاريع التنمية هي من اختصاص وزارات المياه والزراعة والصناعة والتجارة بطبيعة الحال الإشراف علي التفكير العلمي في أي مشروع هو من صميم أعمال وزارة البحث العلمي ولكن ليس همها الأول بأي حال من الأحوال. لقد بدأت عملي كمستشار علمي متطوع وبدون راتب في مصر وبشكل رسمي في أول مرة تقلد فيها الدكتور عمرو عزت سلامة وهو مهندس مدني مثلي أعباء هذه الوزارة، للأسف بعد أشهر قليلة نزل الدكتور عمرو عزت الوزارة، كانت فترة عصيبة وأتذكر البلبلة الإعلامية التي أثارها عدد من الأحاديث التي أدلي بها الدكتور أحمد زويل إلي صحيفة «المصري اليوم» ترجمت ربما عن خطأ أنه لا يوجد شيء اسمه النانو وهو فقط كلمة ووحدة قياس للطول، إذا كان هذا صحيحا إذن لا توجد أيضا «فمتو» لأن هذه مجرد كلمة وهي وحدة قياس للزمن. علي كل حال من هذه البلبلة مقصودة أو غير مقصودة وطعنات في الظهر من أعداء النجاح المعروفين بالإضافة إلي عميد حالي انتهازي جلس إلي جانبي لمدة ليستقي فكري عن المبادرة القومية للنانو تكنولوجي ثم ذهب لتزيفه أمام المسئول الأول عن البحث العلمي بعد مغادرة الدكتور عمرو عزت وكانت النتيجة أنه ارتقي إلي درجة عميد لا يستحقها وذلك عن طريق التعيين واستولي علي مبادرة تقنية النانو وحولها إلي احتفالات مؤتمرية تفتتح عن طريق مشاهير السياسة وليس العلماء بالإضافة إلي المهرجانات الكلامية في الإعلام والفضائيات التي تبيع الأوهام السلبية والايجابية بقدوم الدكتور عمرو عزت سلامة قد يتغير الوقت ولكن لابد من تغير جذري للأسلوب الذي ساد في العشرين سنة الماضية في التعليم العالي والبحث العلمي الذي كما قلت في مقالات من أكثر من عشر سنوات أخذت عليها أن طابع «الهمبكة» فيها هو الغالب. باختصار الدكتور عمرو يحتاج للعمل في صمت مع ميزانية معقولة وفي اتجاه التميز وليس التنمية وبعيدا عن الإعلام والإثارة، وبعيدا عن أي طريق إلي نوبل أو جرانوبل. في هذه الحالة سوف يكون النجاح حليفه فيما فشل فيه الجميع باستثناءات قليلة.