لعل بردية آني هي أقدم البرديات الفرعونية التي وصلت إلينا كاملة وسليمة تماماً، هي خاصة بالمرحوم آني ومعذرة لأني لا أعرف اسمه الثلاثي، وهي تتكلم علي ما سيواجهه الإنسان بعد أن يموت من مراحل لابد أن يثبت فيها لقضاته في العالم الآخر أنه لم يرتكب إثماً في حياته وأنه طاهر وبريء ويستحق دخول جنات النعيم، وعن بعض صفاته الحميدة يقول: لم ألوث النهر.. لم أقلل نذور المعبد.. لم أزد النار اشتعالا، وبعد آلاف السنين أستطيع القول باطمئنان أن السيد آني أو أي مواطن آخر يكون كاذباً بامتياز إذا ادعي أنه لم يلوث النهر، أما حكاية نذور المعبد فما زال عادة تمارس ولها قدسيتها، حتي الآن فهو يضع قدرًا من المال أو الحلي الذهبية في صناديق النذور الخاصة في مساجد بعض أولياء الله.. أما حكاية أنه لا يزيد النار اشتعالا، فستكتشف عند اثنين علي الأقل من علماء المصريات، وهما بريستيد وسير واليس بادج أنهما يقولان أن الترجمة عن الأصل الهيروغليفي سليمة غير أنهما لا يفهمان معناها، ولو كانا مصريين لعرفا علي الفور المعني المقصود.. يعني «ما شعللتهاش».. أي أنه في وجود أي مشكلة أو أزمة، أنا أعمل علي حلها وليس علي «شعللتها». ويمر آني بمرحلة أخري عندما يقف أمام منصة محكمة يجلس إليها اثنان وأربعون قاضيا يمثلون كل أقاليم مصر، وهنا يؤكد آني أنه يعرفهم جميعاً، ويتكلم موجهاً خطابه لكل واحد منهم علي حدة.. ترجمة البردية كما أوردها الأستاذ بريستيد لا تذكر أسماءهم جميعاً ولكن لفت نظري أسماء قاضيين (إلهين) منهما، الأول يقول له: نعم.. أنا أعرفك.. أنت الإله ذو الخطوة الواسعة (The broad stride God) أليس هو أبو خطوة في التراث الإسلامي، وهو أيضًا أبو حصيرة في التراث اليهودي، أما في التراث المسيحي، فهو الراهب السائح، وينسبون إليه القدرة علي التواجد في مكان ثم الانتقال منه إلي مكان بعيد بعد عدة ثوان، أما القاضي الذي أود التركيز عليه، فهو الإله صاحب القدمين المشتعلتين (The God with the burning leg) أليس هو بالتحديد .. أبو رجل مسلوخة؟ إنه أكثر العفاريت المصرية شهرة، من منا لم يكن يشعر بالرعب من أن يطلع له في ظلام القرية. ولكنني أنا شخصيا لم أكن أخشاه، لقد جربت أن تجرح ساقي وأن تسلخ، وهي حالة كنت أشعر فيها بأنني في غاية الضعف والتعاسة، كيف يمكن لعفريت رجله مسلوخة أن يخيف أحداً، لقد أفلحت آلاف السنين في تحويل ساقيه من مشتعلتين إلي مسلوختين.. الصورة الأولي مخيفة بالفعل، أما الثانية فلا. غير أن مرور هذه الآلاف من السنين لم تفلح في تخليص العقل الجمعي في مصر من الخوف من "أبو رجل مسلوخة" اتضح أنها تغذي احتياجًا طبيعيا عند قطاع عريض من البشر خاصة في ميدان السياسة، لا بد من فزاعة وهمية يخيفون بها البشر، بالرغم من وجود فزاعات حقيقية لابد أن تفزع منها الناس فعلا، ولكن ميزة العفريت أبو رجل مسلوخة هو أنك عاجز عن معرفة الطريقة التي تتعامل بها معه، في مواجهة أبورجل مسلوخة، أنت عاجز عن حماية نفسك فلا يتبقي لك إلا أن تشعر بالفزع، هذا الإحساس الدائم بالفزع هو ما سيضمن أن تكون عاجزًا للأبد عن فعل أي شيء أو القيام بأي إنجاز.. ولكل مرحلة تاريخية هناك أبو رجل مسلوخة الخاص بها، فأحيانا نسميه الإمبريالية أو الثورة المضادة، وفي مرحلة أخري نسميه.. أكمل أنت.