يقول تعالى فى سورة القدر:- إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ{1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ{2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ{3} تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ{4} سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ{5}. ترى ما هو السلام الذى عناه الله بقوله تعالى [ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]؛ لقد دوّن أصحاب كتب التفاسير كلٌّ وفق فكره واجتهاده ما يعنى أن السلام ليلة القدر هو سلام يبعثه الله على المؤمنين، وهناك من ذكر أن الملائكة تتنزّل بالسلام ليلتها وتصافح المسلمين، وهناك من توسع وقال بأن الشمس فى صبيحتها تطلع وليس لها شعاع وغير ذلك من خرافات ما أنزل الله بها من سلطان.
أرى أنّ تلك التفسيرات تجافى الواقع، بل ويستغلها آخرون فى قود بعض الشباب إلى الكُفر بالله، لأنّ الحروب لا تتوقّف طوال شهر رمضان بما فيه من ليلة القدر غير المعلوم تحديد لها، سواء أكانت تلك الحروب فى العراق أو فى سوريا، وزج اليهود لأهل فلسطين فى غياهب معتقلات دولة الاحتلال (إسرائيل)، أو فى أفغانستان أو فى باكستان، أو ميانيمار، أو فى الكوارث التى كانت قد حلَّت بالمسلمين فى دولة البوسنة والهرسك وغير ذلك كثير ولا يتوقف، فأين السلام المادى الذى يتصوره البعض؟
كما أن الكوارث والمصائب لا تتوقف، فهذا ينتحر وذاك يحترق، وآخر يقضى نحبه فى سيارة مسرعة، وهناك من يطلقها زوجها بلا جناية منها ....وهكذا، فأين ذلك السلام الذى تذكره التفاسير؟، وكيف تزعمون بأن السلام للمسلمين بينما نراهم أكثر من أُهينوا ولا تتوقف المصائب عنهم حتى فى كل شهر رمضان بما فيه من ليلة القدر، واسألوا أهل سوريا هل توقف الأسد عن التهام أبنائهم برصاصاته الغادرة، هل أمضى أحدهم ليلة واحدة فى سلام طوال شهر رمضان، بل ولن أكون مبالغا إن ذكرت لكم ولا حتى بأيام عيد الفطر القادم.
إنّ الشباب الذين يرتادون تلك التفاسير اعتقادًا منهم أنها لا يأتيها الباطل، والذين يعتنقون تلك الخرافات، سيضلُّّون عن جادة الحقيقة، فحين لا يرون السلام الذى يتصوَّرونه فى ليلة القدر فإنهم سيتشككون فى النصوص والوعود القرآنية، ولقد ساعد فى إضلالهم ما شيَّده الفقهاء من هالات الكمال وجسور التّبجيل لمؤلفات السلف وجهد السلف التى يظنونها سطرت بمداد الحق من عباد الحق، فليعوضنا الله فى عقول هؤلاء جميعا.
إن تفسير المُفسِّرين ليس بحقيقة دينية لا تقبل الخطأ أو الجدل حولها، خاصة وأن الله تعالى يقول:- {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الألْبَابِ}آل عمران7؛ لاحظ أن هناك وقفًا تامًا بين كلمة (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) وبين كلمة (وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ)، بما يعنى أن تأويل القرآن لا يعلمه إلاّ الله، أمّا الرَّاسخون فى العلم فيقولون آمنا به، وتأويلاتهم مجرد اجتهادات تقبل الخطأ كما نتوسم فيها الصواب. ويقول تعالى:- {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ......}الأعراف53؛ الأمر الذى يعنى أن التأويل الحقيقى سيكون يوم القيامة، فلا عصمة لتأويل أحد.
وعودة إلى ما أراه مناسبا لتفسير آية [ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ] القدر 5؛ ولا يؤدى إلى الكُفر بكتاب الله وليس فيه مجافاة لمنطق الواقع، فإننا إن وقفنا على حقيقة المعانى والأهداف لألفاظ القرآن فإننا سننتهى إلى حقائق لا يدركها أصحاب التأويل بالعواطف، وسيكون ذلك أعظم شأنا لإيماننا، وأشد تثبيتا لقناعتنا بديننا، فإننا إن خرجنا خارج الأُطر والأهداف الخاصة إلى الأُطر العامة التى تتناسب وجلال وقدر ليلة القدر لاتنهينا إلى غير ما وصل إليه قدامى المفسرين عن معنى الآية، وهو ما أُلخصه للقارئ فيما يلي: إن الله عز وجل يقول عن يوم القيامة وحال المؤمنين يومها:- {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ }الأنبياء103 ؛ فالفزع الأكبر يكون يوم القيامة، وعلى ذلك فالأمن من الفزع الأكبر يكون هو السلام الحقيقى لجميع المؤمنين وهو سلام لا مراء فيه.
والمتدبر للآية السابقة كذا آية [ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]سيقف على وجود وعد من الله بأمن كافة الخلائق كلها من الفزع الأكبر فى ليلة القدر إكرامًا لليلة التى نزل فيها القرآن فقال عن أهم خصائصها بعد نزول القرآن أنها:- [ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]؛ فهى إذا سلام مطلق على جميع الخلائق وليس لفئة بعينها، بما يعنى أنه لن تتزلزل الأرض فى ليلة القدر، وحيث أخفى الله ليلة القدر فقد أخفى يوم القيامة أيضًا، فلا تحديد لهما، فهما من الغيب المطلق الذى لا يعلمه إلاّ الله، يعنى ذلك عندى أن ليلة القدر تكون دومًا سلام من رهبة وفزع قيام السَّاعة.
ولأن ليلة القدر هى ليلة الشرف التى أنعم الله فيها على الأرض ومن عليها بنزول القرآن فلا يختص بها المسلمين فقط، إنما هى ليلة تمر على الكافر والكتابى والإنس والجن والحيوان والجماد، لذلك فإن وعد الله بالأمن فيها يشمل كل الخلائق مسلمهم وكافرهم، محسنهم ومسيئهم، فلن تقوم فيها الساعة حتى لا يفزع المجرمون، ولا تتزلزل الأرض ولا يقول الإنسان مالها.
يعنى أن يوم القيامة يكون يوم فزع أكبر من أى فزع، لذلك فقد أكرم الله الخلائق بالأمن والسلام فى ذلك اليوم من قيام الساعة، وما يصاحبها من فزع، إكراما لمن نزل عليهم وفيهم ولهم القرءان، حتى وإن لم يؤمن الكثيرون به حيث يقول تعالى :{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}يوسف103، فالله خالقنا يعلم أن الكثيرين لن يؤمنوا لكنه ومع هذا يؤمنهم إكراما منه لهم لأجل تبيان بركة القرآن، ولمثل ذلك اليوم الذى نزل فيه القرءان هدى للناس، حتى وإن رفض البعض تلك الهداية.
فبهذا التأويل الذى لا يجافى العقل أو الواقع، ويتناغم مع حقيقة السلام عند الله، وحقيقة باقى الآيات بالقرآن، تستقر عقول الشباب، ولن نجد من يشكك فى دين الإسلام، ويغتنم فرصة من صنع بعض مجتهدينا تساعده لإخراج شبابنا من الملّة، أو تُسبب فى اهتزاز الثقة بفقهائنا.
ولن نجد الخرافات والخزعبولات التى واكبت تلك التفاسير القديمة من أناس يتمنون رؤية ليلة القدر، ومن يتأولونها أنها نور، وترى آخرين يظنونها قبول للدعاء ليلتها، وكأن قبول الدعاء رهن باليوم أو الليلة وليس رهنا بالله والإنسان الذى يدعو الله ومدى إخلاصه وما يضمره فى نفسه، فقد أهال الفقه القديم التراب على الإخلاص فى العمل والمعاملات والشعائر ليقفز إلى بحبوحة لا تستند إلى أى فقه فى كتاب الله..
ومن بين الخزعبولات التى يروق لهم ذكرها أن الله ينزل إلينا فى ليلة القدر وفى العشر الأواخر من رمضان وفى ليلة النصف من شعبان ليستطلع أحوال المستغفرين والمصلين والداعين الطامعين فى رحمته، فيقول ألا من تائب فأتوب عليه ألا من مستغفر فأغفر له ألا من طالب كذا وكذا، حتى يطلع الصبح، وما أرى ذلك إلا من خرافات السلف وتزويرهم للحديث النبوى لأجل صناعة أمة الأوهام والخرافات فإن الله لا ينزل إلينا، ولا يبحث عن مستغفرين ولا غيره فهو أعلم بكم إذ أنشأكم فى بطون أمهاتكم ويعلم ما تسرون وما تعلنون دون ما حاجة لنزول وطلوع.
وكثير من الدعاة يحلو لهم أن يتشدقوا بعلوم السلف مهما تعاظمت مخالفاتها الشرعية والعقلية، ومن بينها الاحتفال بتلك الليالى المذكورة بل ويقولون بأن الله ينزل أيضا فى كل ليلة بعد أن يمضى شطر الليل، ألا يدرك هؤلاء بأن الله تعالى قال: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }يس40.
وقد أفردوا لهذا الخراب الفقهى طقوسا وأدعية خاصة، فهم يهيمون شوقا للحصول على مغفرة الله فى ليلة القدر، وهناك من يقول أنه يغفر للناس جميعهم إلا مشرك أو مشاحن... (ابن ماجه)، والحمد لله ما أكثر المتشاحنين ببلادنا فيما أهمهم وما لم يهمهم ، حيث ينطلق زعمهم إلى أن الله ينزل فيها للسماء الدنيا منذ غروب شمسها وهو يتفقد التائب والمستغفر وغيرهما من المعتكفين بالمساجد الذين يعطلون العمل ويستنزفون حصيلتنا من العملة الصعبة ليذهبوا للعمرة ولا يدرون بأن بلدهم أوشك على الإفلاس.
ألا يدرك هؤلاء بأن الله لا يتفقد الطرقات ليبحث عن المستغفرين وغيرهم لأنه سبحانه وتعالى يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه، وأنه سبحانه يعلم السر وأخفى، أليس ذلك الفقه الجائر فيه محاولة تجسيم وتشبيه لله مع خلقه؛ ألا يدرك هؤلاء الفارون من العقل إلى الجنون أن الله سبحانه وتعالى يعلم حتى ظنونك التى تضمرها فى نفسك ويمكن أن يحتسبها عليك آثام توجب عقابك وذلك من قوله تعالى: [إن بعض الظن إثم]، فهل مثل هذا الإله العليم يحتاج لينزل إلى السماء الدنيا.
وأين الرقيب والعتيد الذين يكتبون ما تفعلون هل يتوقف عملهم فى النصف الأخير من الليل بليلة القدر ويتركون تلك المهمة لله الذى ينزل إلينا وفق زعمهم.
أعلم تماما بأن سدنة الفقه السلفى أعدوا لكل معضلة حلا، ولكل مسألة جوابا، لكن ما عادت عقولنا مستباحة كأهل الزمن القديم، وما عاد الناس ينقسمون إلى علماء وجهلاء، وأمر الدين ميسر للجميع وبخاصة موضوعات العقائد وذات الله الذى ليس كمثله شىء.
فكل ذلك خرق عقلى، أو لعل النبى قال ذلك من باب الترغيب لأناس بسطاء لا يعلمون القراءة ولا الكتابة ويسكنون البوادي، فخاطبهم على قدر عقولهم، لكن يستحيل أن يكون الأمر واقعا أبدا، فالنصف الأخير من الليل هنا يتبعه النصف الأخير من الليل هناك فهل يظل ربنا نازلا طالعا أم هو نازلا باستمرار لأن تعاقب الليل والنهار فى كل بقاع الأرض يحتم ذلك. أذكر ذلك حتى يتعقل المسلمون، ويفقهون فقها غير الذى ورثوه.
إن مغرب شمس أى ليلة يمتد لمدة أربع وعشرين ساعة فى اليوم على مدار الكرة الأرضية، فهل سينزل الله هنا ثم يتركنا لينزل هناك، إن ذلك الأسلوب يكرس الجهل بدين الله، وذاته العلية، بل يتضاد مع قوله تعالى: {.. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }الحديد4؛ وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }البقرة186؛ فالله قريب دوما سواء أكانت ليلة النصف من شعبان أو القدر أو أى ليلة أو غيرها، فالله قريب فى كل الليالى والأيام، ولتذهب الدعوة القديمة إلى الجحيم، فما عادت تطرب عقول شباب الانترنت، ولا تتناسب مع قدراتهم الفكرية، فضلا عن زيفها على الله ورسوله.
فقد آن الأوان لنا أن نعلم أن الله يتقبل كل صالح أعمالنا ليلا ونهارا وكل الأيام وعلى مدار الساعة، طالما لا نبتغى بها سوى رضوانه، بل هو يقيل عثراتنا بواسع مغفرته، نعم قد تكون هناك لبعض الأيام خصيصة زائدة مثل يوم الجمعة ووقفة عرفات وأيام رمضان وليلة القدر لكن الله لا يهبها عاطل فى باطل لمن يختزلون الإسلام فى ليلة واحدة يعتكفون فيها بنهار رمضان وليله ويقولون اعتكفنا ليلة القدر، بينما هم غارقون فى شهواتهم بلا استقامة ولا عمل صالح طوال العام.
ولقد آن الأوان للأزهر أن يجدد شباب دعاته وأفكارهم، فليس هناك للعبادة مواسم، وليس هناك عيب أن تمتزج علوم الدنيا بالدعوة لطاعة الله، ولابد أن يعلم الدعاة شيئا عن خلق السماوات والأرض والدورة الشمسية والقمرية وتأثيرها على حقيقة العبادة للمسلم الواع، فلسنا من الغافلين، وليكرسوا مذهب أن الإخلاص فى العبادة فى أى يوم أفضل من قيام عند الحجر الأسود.
إن كرم الله وقبوله لدعاء الداعين وقبوله للوافدين الطامعين فى رحمته لا يتوقف على ليلة القدر، بل هو بكل الليالى والأيام بما فيها من ليلة القدر، لكن المهم ألا يتعلق المسلم بترهات عقائد من صنع نفسه أو غيره، أو من منظور ضيق الأفق لمعانى آيات كتاب الله، ولا يظن المسلم أن الله قد خصص الخير فى القرآن للمسلمين فقط، بل لا بد أن يعلم المسلم أن الله أنزل مائدة القرآن هدى للناس جميعا، وهو يكرم فى يوم تنزيله الناس والخلائق جميعا، فذلكم هو الخير العام، فضلا عن الخير الخاص للذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخلصوا دينهم طوال العام لله فأولئك طوبى لهم فى ليلة القدر وبكل دعاء بكل أيام حياتهم ولهم حسن مآب عند ربهم.