في صباح السادس من مايو الحالي أعلن المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، عن استطلاع للرأي تم العمل عليه خلال الفترة من 1 إلى 4 مايو الحالي على مدى 4 أيام، لتخرج نتائج استطلاع الرأي وتحليلاتها فى تقرير من 20 صفحة تم صياغته خلال يوم واحد لتتناقله وكالات الأنباء العالمية والفضائيات العربية والأجنبية، ليكون بمثابة مسار يستهدف العمل على تصفية القضية. في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمه زيارة منطقة الشرق الأوسط، لتشمل كلا من الإمارات، وقطر، والسعودية، منتصف هذا الأسبوع، مؤكدًا أنها لن تشمل إسرائيل، إلا أنه سرعان ما ترددت أنباء حول توقعات بزيارته تل أبيب فى ختام الجولة فى ظل قيام المبعوث الأمريكي بجولة جديدة فى المنطقة تسبق جولة ترامب بعدة أيام. استطلاع الرأي الذي قام به المركز الفلسطيني للبحوث جعلني أتوقف عند تفاصيله كثيرًا، ليس لكونه صدر عن إحدى المؤسسات البحثية فى الأراضي المحتلة، لكن لاختياره التوقيت، وأيضًا العينة التي تم العمل عليها، وتحديد الهدف (موضوع الاستطلاع). تذكرت وأنا أقرأ البيان المكون من 20 صفحة، تلك الاستطلاعات المسماة بالمدفعية الهادئة، لما لها من تأثير على الروح المعنوية لدى الشعوب دون حدوث أي ضجيج، بل تستطيع أن تدفع بالقضايا المختلفة فى الاتجاه المحدد لها. تلك الاستطلاعات الصادرة عن مراكز بحثية بعينها، جعلني أستعيد من ذاكرتي استطلاعات الرأي المعلَّبة والتي يتم تحديد نتائجها من قِبل مُصدر التكليف بعملية البحث، لتأتي النتائج وفق ما حدده. بعدها تكون الخطوة الأهم هي التسويق لنتائج استطلاع الرأي ذاك، ولأن الحروب الحديثة كانت للعمليات النفسية دور كبير فى حسم نتائجها، جرى العمل بقوة على مثل تلك المسارات المؤثِّرة على اتجاهات الرأي العام.
(1)
لم يأتِ استطلاع الرأي المسموم الذي حمل رقم (95) صدفة، ولا النتائج التي خرج علينا بها وأفردت له وكالة رويترز مساحة نشر خاصة قَدرًا، إنما هو هدف تم وضعه ورسم استراتيجية لتنفذه بشكل احترافى. ففي الوقت الذي ينادي فيه الجميع بضرورة الوقف الفورى لإطلاق النار، وضرورة إيصال المساعدات إلى الفلسطينيين فى قطاع غزة والضفة الغربية، والعمل على إحلال السلام وحل الدولتين وإعلان الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 67 خرج هذا المركز ليطلق نتائج استطلاع الرأي الخاص به ليكون بمثابة تمهيد لتنفيذ مخطط التهجير، ليبدو وكأنه مسار طوعي بالتزامن مع وصول الرئيس الأمريكي للمنطقة ليعلن عن خبر عظيم حسب تصريحاته الإعلامية لم يكشف عنه الأسبوع الماضي. استطلاع الرأي الصادر عن المركز الفلسطيني للأسف الشديد عمد إلى تقديم صورة زائفة عن الوضع فى الأراضي المحتلة، وكأنما قد حددت له خطوط العمل والنتائج. ليعلن أن 49% ممن شملهم استطلاع الرأي من الفلسطينيين يوافقون على الهجرة طوعية إلى خارج الأراضي الفلسطينية، وعلى استعداد لتقديم أوراقهم للسلطات الإسرائيلية لإنهاء ذلك، وهو أمر مكذوب جملة وتفصيلاً. لتنقل وكالات الأنباء ووسائل الإعلام الغربية وللأسف بعض الفضائيات العربية نتائج الاستطلاع المسموم معلنة أن 50% من سكان غزة يريدون الهجرة. وهو أمر غير صحيح تمامًا، فأبناء فلسطين الصامدون لن يتركوا أرضهم لأنهم لن يسمحوا بتصفية القضية الفلسطينية، كما أن قرارًا مصيريًا كهذا لا تحدده استطلاعات رأي مزيّفة. جاءت عينة الاستطلاع تشمل 1270 شخصًا ما يساوى 0.0002% من عدد الفلسطينيين فى نسبة لا تعبّر عن الواقع حال مناقشة قضية مثل قضية التهجير. هذا المخطط الذي تم التصدي له بقوة صمود الشعب الفلسطيني وما قدمه من تضحيات راح ضحيتها أكثر 53500 شهيد، وأكثر من 125500 مصاب، و18000 معتقل و2 مليون نازح. إن الاستطلاع الصادر بعد حصول المركز على حِفنة من الدولارات لإنجاز هذا العمل كي يعاد حديث الإدارة الأمريكية وعلى رأسها الرئيس الأمريكي عن تهجير الفلسطينيين، لا يمكن له أن يعبّر عن الواقع. كما أن تفاصيل عملية جمع البيانات تكشف زيف النتيجة، فلم يتم استطلاع رأي سكان رفح وخان يونس وشمال القطاع، كما جاء فى بيان المركز. الأمر الذي يكشف توجهات المركز لإنتاج مثل تلك الورقة وتوقيت إنتاجها. ثم تكشف أسئلة الاستطلاع المؤامرة التي شارك فيها المركز ضمن مخطط تصفية القضية، فقد جاء ضمن الأسئلة الجزء الثامن من الاستطلاع بعنوان "دعوات ترامب وإسرائيل لتهجير سكان قطاع غزة" كان السؤال موجهًا لسكان القطاع بعدد مشاركين بلغ 440 شخصًا. نص السؤال: جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي حول الحاجة لتهجير سكان قطاع غزة من أجل إعادة بنائه.. فهل أنتم مستعدون للهجرة من القطاع بعد انتهاء الحرب؟! وبحسب نتائج الاستطلاع قالت أغلبية أكثر من 56% إنها غير مستعدة للهجرة لكن أقلية بلغت 43% قالت إنها مستعدة للهجرة من القطاع بعد انتهاء الحرب. ليأتي سؤال آخر عما إذا كانوا مستعدين لتقديم طلب لإسرائيل لمساعدتهم فى الهجرة لدول أخرى عن طريق مطاراتها وموانئها، قالت نسبة بلغت 49% منهم إنها مستعدة للقيام بذلك وقالت نسبة 50% منهم إنها غير مستعدة للقيام بذلك. وهو السؤال الذي بُنيت على نتائجه الزائفة البروباجندا الإعلامية للتسويق من جديد لمخطط الهجرة الطوعية للفلسطينيين خارج أراضيهم، وهو حديث مكذوب لاستطلاع لا يعرف للدقة مسار. إنه ترويج جديد لمخطط التهجير ليظهر وكأنه مطلب فلسطيني والفلسطينيون منه بَراء. الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فالاستطلاع الذي بلغت محاوره 9 محاور شمل المحور الأول منه 10 نقاط، طال عملية تشكيك فى القيادة الفلسطينية والنيل من قدرتها على إدارة الدولة، والترويج والتسويق لوجهة النظر الإسرائيلية والأمريكية. كما حاول النيل من دور الدول العربية فى دعم القضية الفلسطينية مقتصرًا على دور الحوثيين وحزب الله. إنه استطلاع نتائجه مسبوقة التجهيز ودفعت الممثلية الهولندية فى رام الله الثمن.
(2)
استخدمت استطلاعات الرأي كأداة فى الحروب والصراعات النفسية والإعلامية، فأصبحت وسيلة فعالة للتأثير على الرأي العام، ورفع المعنويات أو تحطيمها، وتوجيه الشعوب والدول. خلال صراع النفوذ بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي، أصبحت استطلاعات الرأي أداة للدعاية للأيديولوجية. كل طرف كان يُظهر (عبر وسائل إعلامه) أن الرأي العام العالمي يؤيده، بغرض كسب الشرعية الدولية وكسب الرأي العام المحلي. لقد استخدمت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) وأجهزة الدعاية السوفيتية استطلاعات الرأي الموجهة، لتُظهر أن الأنظمة الرأسمالية أو الاشتراكية هي المفضّلة شعبيًا، مما يؤثر على الدول المترددة فى الانضمام إلى أحد المعسكرين. فى الحروب غير التقليدية مثل حرب المعلومات، أصبحت استطلاعات الرأي تُستخدم فى الحملات النفسية للتأثير على قرارات العدو، مثل إظهار دعم زائف أو معارضة كبيرة لزعيم أو قرار بهدف زعزعة الاستقرار الداخلي. استطلاعات الرأي فى سياق الحروب ليست فقط أداة لفهم الرأي العام، بل قد تُستخدم أيضًا كسلاح نفسي أو إعلامي ضمن أدوات الحرب الناعمة، والتأثير السياسي والاستراتيجي. لقد استخدمت الجبهة الوطنية لتحرير جنوبفيتنام (الفيت كونج) استطلاع الرأي الذي قدمته مؤسسة Gallup poll (شركة تحليلات واستشارات أمريكية تتخذُ من واشنطن مقرًا لها، أسسها جورج جالوب عام 1935 وأصبحت الشركة معروفة باستطلاعاتِ الرأي العام، التي تُجريها فى 140 دولة) فى أواخر الستينيات قامت المؤسسة بعمل استطلاع رأي حول الحرب الأمريكيةبفيتنام، والذي جاءت نتائجه تظهر انخفاض التأييد الشعبي الأمريكي لتلك الحرب، واستخدم "الفيت كونج" تلك النتائج ليُظهروا أن الشعب الأمريكي ضد حكومته وضد الحرب، مما زعزع ثقة الجنود الأمريكيين ودفع القادة لإعادة النظر فى استراتيجيتهم، وهو ما أثّر على معنويات الجنود الأمريكيين فى الداخل والخارج. كذا أطراف الحرب الروسية الأوكرانية تستخدم استطلاعات الرأي كأحد الأسلحة المؤثرة فيها، وعمل كِلا الجانبين (روسياوأوكرانيا) على استخدم استطلاعات داخلية ودولية لإظهار أن الشعب يؤيد الحرب أو يعارضها. واستخدمت نتائج الاستطلاعات لإضعاف المعنويات وتشكيك الجنود فى شرعية القتال. مثل استطلاعات "ليفادا سنتر" فى روسيا، أو استطلاعات غربية بشأن دعم أوكرانيا، تم استغلالها وتسويقها إعلاميًا فى هذا السياق. (3) ولأن استطلاعات الرأي تسير وفق محددات ومسارات وقواعد، الأمر الذي يستوجب أن يتم العمل عليها باحترافية حتى تصبح النتائج المصنوعة مسبقًا مقنعة للمتلقي، عمدت تلك المراكز على اختيار توقيتات محددة لمثل تلك الاستطلاعات. فيتم العمل على صياغة الأسئلة بشكل يجعل النتائج تحقق الهدف المنشود، من خلال التأثير على جزء من إجابات العينة. أو العمل على عينة لا تمثل منطقة الدراسة تمثيلاً متوازنًا، أو استخدام توقيت سياسي حساس، مثل إجراء الاستطلاع مباشرة بعد أزمة أو حادثة قد يعطي نتائج مشوّهة. وهناك أمثلة على استطلاعات الرأي المضللة، منها ما جرى خلال الاحتلال الأمريكي للعراق، فقد نُشرت نتائج تدّعي أن "أغلب العراقيين يرحبون بالتحرير"، لكن عينات الاستطلاع كانت من مناطق ذات طابع سياسي معين، مما أدى إلى تشويه الرأي العام الحقيقي. كما أن العديد من استطلاعات الرأي الأمريكية 2016 التي أجرتها كل من (CNN، New York Times، FiveThirtyEight) توقعت فوز هيلاري كلينتون على دونالد ترامب بفارق 3:6 نقاط، لكنها لم تأخذ بعين الاعتبار "الولايات المتأرجحة" بشكل دقيق، مما أعطى انطباعًا خاطئًا عن النتيجة المتوقعة. إنني لم أستغرب نتائج الاستطلاع الزائف الصادر عن المركز الفلسطيني للأبحاث والدراسات المسحية عندما طالعت أسماء مجلس أمناءه والباحثين فيه. فقد جاء يزيد صايغ الذي يعمل فى مركز مالكوم كير- كارنيجي للشرق الأوسط – بيروت- كأحد الثلاثة الممثلين لمجلس أمناء المركز. يعد صايغ الذي ترتكز معظم موضوعاته على توجيه الهجوم ضد القوات المسلحة المصرية والنظام فى مصر الرجل الأهم فى ذلك المركز البحثي، كما أنه أحد الضيوف الدائمين على قنوات تنظيم الإخوان الإرهابي. إن صدور مثل هذا الاستطلاع والترويج الإعلامي له يؤكد أنه أحد أدوات تسويق مخطط التهجير الجديد لسكان قطاع غزة بدعم أمريكي إسرائيلي.