تخطت ال 18 ألف، مصاريف المدارس اليابانية للعام الدراسي الجديد وطرق السداد    ربيع: تراجع السفن العابرة بقناة السويس خلال أبريل بسبب توترات البحر الأحمر    القضية الفلسطينية ورفض التهجير وإدخال المساعدات على رأس الأولويات    ترامب يدافع عن الطائرة هدية قطر: لست غبيا لأرفضها.. وقدمنا لهم الكثير من مساعدات الأمن والسلامة    أتالانتا ضد روما.. التشكيل الرسمي لقمة الدوري الإيطالي    من الإعارة إلى التألق.. إيريك جارسيا "ورقة رابحة" في يد فليك    بركلات الترجيح.. «منتخب الشباب» يهزم غانا ويتأهل لنصف نهائي أمم أفريقيا ومونديال تشيلي    قرار من الجنايات بشأن المتهم بخطف ابن أخيه الطفل «مالك» بالعياط    مصرع طفل أسفل عجلات القطار في قنا    محبوس بكفر الدوار ومزور اسمه.. كيف سقط المتهم في جريمة شقة محرم بك؟    وزيرا الصناعة والثقافة يستعرضان خطة العمل مع السفراء    أستاذ علوم سياسية: إنهاء صفقة عيدان ألكسندر خطوة مهمة فى دعم القضية الفلسطينية    تطور جديد فى خلاف أبناء محمود عبد العزيز ضد بوسي شلبي    «بيئة العمل تحتاجهم».. 4 أبراج تترك أثرًا إيجابيًا لا يُنسى في أماكنهم    عالم بالأزهر: هذا أجمل دعاء لمواجهة الهموم والأحزان    إطلاق الخطة العاجلة للسكان والتنمية والبرنامج القومي للوقاية من التقزم    الأمم المتحدة: سكان غزة يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي    ما حكم إقامة العلاقة الزوجية أثناء الحج؟.. أمين الفتوى يجيب    نادية الجندي تخطف الأنظار بإطلالة شبابية جديدة | صورة    يونيفيل: العثور على 225 مخبأ للسلاح جنوبي لبنان    أمينة الفتوى: هذه أدعية السفر منذ مغادرة المنزل وحتى ركوب الطائرة لأداء الحج    أمينة الفتوى: الزغاريد عند الخروج للحج ليست حراماً لكن الأولى الالتزام بالأدب النبوي    المؤبد لقاتل شقيقه داخل مزرعة مواشي بالدقهلية بعد تنازل الأب عن الحق المدني    قطرة شيطان.. قتل خالته وسهر بجوار جثتها مخمورًا حتى طلوع الفجر (كواليس جريمة بشعة)    طلاب إعلام الاهرام الكندية تعيد فرقة رضا للجمهور ب إبهار تراثي عصري جديد    بالصور.. الكشف على 3400 مواطن في قافلة طبية لجامعة أسيوط بغرب أسوان    تأجيل إعادة محاكمة 5 متهمين ب"الخلية الإعلامية" لجلسة 10 يونيو    «تلاعب في العدادات وخلطات سامة».. 5 نصائح لحماية سيارتك من «غش البنزين»    عون وعباس والشرع في السعودية خلال زيارة ترامب.. ماذا سيوضع على الطاولة؟    أهم 60 سؤالاً وإجابة شرعية عن الأضحية.. أصدرتها دار الإفتاء المصرية    معاش المصريين العاملين بالخارج 2025: الشروط والمستندات وطريقة الاشتراك    شهادات نجوم الفن.. هل تنهي أزمة بوسي شلبي وأبناء الساحر؟| فيديو    أسعار الحديد ومواد البناء اليوم الإثنين 12 مايو 2025    يُسلط الضوء على المواهب الصاعدة.. الكشف عن الشعار الرسمي لكأس العالم تحت 17 سنة    بعد إعلانه رسميًا.. جدول امتحانات الصف الخامس الابتدائي بأسوان (تفاصيل)    تفاصيل الحملة القومية الأولى ضد مرض الحمى القلاعية وحمى الوادى المتصدعة أسوان    اعتماد أوروبي لقصر العيني كمركز متخصص في رعاية مرضى قصور القلب    أشرف العربى إطلاق تقرير "حالة التنمية في مصر" 18 مايو بشراكة مع "الإسكوا"    فانتازي.. ارتفاع سعر لاعب مانشستر سيتي    موعد وقفة عرفة 2025.. فضل صيامها والأعمال والأدعية المستحبة بها    براتب 6500.. فرص عمل في شركة مقاولات بالسعودية    موعد تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالقاهرة الجديدة    «بعبع» تسريب امتحانات الثانوية العامة.. هل يتكرر في 2025؟| ننشر خطة «التعليم» كاملة    استمرار حملة "تأمين شامل لجيل آمن" للتعريف بالمنظومة الصحية الجديدة بأسوان    مجلس الوزراء يستعرض جهود الدولة لتوطين صناعة الدواء.. مصر تخطو بثبات نحو الاكتفاء الذاتي من الدواء وتصدر لأكثر من 147 دولة.. 180 مستحضرًا و129 مادة فعالة.. وتحقيق وفر بمئات الملايين.. إنفو جراف    مصادر: بورصة مصر تبحث قيد فاليو الأربعاء المقبل    في اليوم العالمي للتمريض.. من هي فلورنس نايتنجيل؟    وظائف خالية اليوم.. برواتب تصل إلى 6500 ريال فرصة عمل لعمال مصريين بالسعودية    عاجل- رئيس الوزراء يتابع ملفات الاتصالات.. ومبادرة "الرواد الرقميون" في صدارة المشهد    البابا ليو الرابع عشر يفتتح رسميًا الشقة البابوية إيذانًا ببداية حبريته في الفاتيكان    تقييم صلاح أمام أرسنال من الصحف الإنجليزية    براتب يصل ل 500 دينار.. 45 فرصة عمل بالأردن في شركات زراعية وغذائية وصناعات خشبية (قدم الآن)    الجيش الملكي يتأهل لدوري أبطال أفريقيا.. والوداد يذهب للكونفدرالية    البنك الأهلي يرغب في ضم كريم نيدفيد    انطلاق فعاليات الدورة التدريبية الرابعة بجامعة القاهرة لأئمة وواعظات الأوقاف    رئيس «دي إتش إل» يتوقع استفادة من التوترات التجارية بين واشنطن وبكين    حالة الطقس اليوم في السعودية    أمام العروبة.. الهلال يبحث عن انتصاره الثاني مع الشلهوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة إلى رحاب الكرامات وحل مشكلات صعيد مصر..«ساحة آل الطيب» دولة المريدين ومحكمة الفقراء
نشر في أكتوبر يوم 03 - 01 - 2016

الطريق إلى «ساحة آل الطيب» بالأقصر، فيض من حكايات تثير الدهشة، وتطلق الخيال فى تاريخ من أسرار الكرامات، وأصداء من أزمنة فائتة، وسيرة شيوخ ومريدين، وفضاء يتسع لمئات الآلاف من مسلمين ومسيحيين وصنوف من البشر، تختلف مقاصدهم بين البحث عن ملاذ روحى أو حل لمشكلة استعصت على الحل القضائى، وربما بنية أخذ البركة من أبناء «الشيخ الطيب الجد» ومنهم فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وهناك ستجد نظامًا اجتماعيًا مترابطًا، وبرزخًا للنجاة من التعصب والطائفية، والدخول إلى عالم قوامه المحبة والسلام.تبعد «ساحة آل الطيب» عن القاهرة بحوالى 700 كيلو متر، وقطعها القطار إلى الأقصر فى نحو 12 ساعة، وخلال الرحلة تبادرت لدينا فى هذا الوقت الطويل أسئلة كثيرة.. ما هو السر الحقيقى الكامن فى ساحة الطيب؟.. وهل هى ملاذ للمشردين ومقصد للزهاد، أم طريق لشخص يبحث عن حقه ولا سبيل لحل مشكلته سوى هذا المكان، دون ساحات صوفية كثيرة، ومنتشرة فى أرجاء مصر؟
وضعنا حقائبنا فى فندق بوسط المدينة صبيحة يوم الجمعة، وأردنا الوصول بأسرع وقت لقرية القرنة التى تقع فيها ساحة الطيب، والأمر اللافت أن أهل الأقصر يتمتعون بالطيبة والسماحة وحسن الضيافة، وتكسو البشاشة ملامح بشرتهم السمراء، ولا أعرف هل هذه جينات وراثية أم سلوك مكتسب، لاسيما أن مصدر رزقهم يرتبط بالسياحة، عموما لم أشغل بالى كثيرًا بهذا الأمر فهذا سلوك معهود من أى مصرى أصيل.
سألنا أحد المارة عن كيفية الوصول إلى القرنة أو ساحة الشيخ الطيب المعروفة للجميع، فدلنا على وسيلتين أولهما ركوب تاكسى أجرة، ويتقاضى 70 جنيها، والثانية أن نركب «معدية» فى النيل للبر الغربى، وثمن تذكرتها 25 قرشا، وقررنا بدون تردد اختيار الوسيلة الثانية..
وقفنا أمام «المعدية» على النيل من البر الشرقى، وتطلعنا إلى معبد الكرنك، وجاء إلينا رجل يرتدى جلباباً، وعرض نقلنا للبر الغربى عبر «لنش» سريع، ويتيح لنا نزهة نيلية ممتعة، وأدركنا أنه سيتعامل بالتسعيرة السياحية، وسألته: «هتاخد كام يا ريس؟»فقال: 5 جنيهات وأبدينا دهشتنا من هذا السعر الزهيد..
انطلق بنا «اللنش» ليبدد سكون النهر الخالد، وقطع تأملنا صوت المراكبى قائلاً: «السياحة خربت يا باشا بسبب الإرهاب ، وبدل ما أركنها وأموت من قلة الشغل، أهو أرجع آخر النهار للعيال برغيفين عيش بدون غموس وربنا ساترنا».
عبرنا البر الغربى للنيل فى ثمانى دقائق، وسألنا أحد المتواجدين على هذا الشط عن ساحة الطيب، فبادرنا بلهجة صعيدية: «أنا يا بيه أوديك» وهذا الشاب يملك دراجة بخارية لتوصيل أهل البلدة، ويطلق عليها « التوك توك» وسألناه: هل المسافة بعيدة؟.. فقال: «لا 10 دقائق حوالى 6 كيلو».
فى الطريق، تراصت البيوت القديمة من طابق واحد، والمبنية بالطوب اللبن، وتواجه المعابد الفرعونية، وانتبهت لصوت السائق: «أنت رايح روضة الأحبة أم آل سيدى الطيب أهل الكرم والجود، وتوقف للحظات، ثم قال: تعرف يا أستاذ انا لما بضيق عليا الدنيا بروح إلى مسجد سيدى الطيب، واقضى هناك يوم كامل، وأرجع آخر النهار، وأجد كل مشاكلى اتحلت» فقلت لنفسى: هذه طبيعة الزهاد.
قبل دخول قرية القرنة – سألت السائق أحمد: لماذا لم تسألنى من أنت؟.. فقال: «من واجب الضيف أن لا أسأله إلا إذا قال هو.. فقلت له أننى صحفى.. فقال:أهلا وسهلا.. انتوا جايين تصورا ضيوف شيخ الأزهر الشيخ أحمد، فقلت له: بل جئت لأقابل زوار الساحة.
قلعة الزاهدين
بدت الساحة كقلعة حصينة، ولكن جميع أبوابها مفتوحة، وكانت الساعة الثانية عشرة ظهرا، وبدأت خطبة الجمعة، ووجدت الآلاف داخل مسجد «الساحة» وخارجها، وهنا لم أهتم إلا بالحصول على مكان لأداء صلاة الجمعة.
انتهت الخطبة التى تناولت سماحة الدين وفقه العفو فى الإسلام، وكان خطيب المسجد د. عبدالفضيل القوصى وزير الأوقاف الأسبق، وهو من عائلة صوفية، وتعلم داخل ساحة الطيب فى بداياته، وقد علمت أن هناك أكثر من 90 وزيرا ومفتيا من الضيوف الدائمين للإمام الأكبر بساحته من أغلب دول العالم.
بدأ خروج الناس من المسجد، وكان فى مقدمتهم شيخ الأزهر، وقد التف حوله محبوه ومريدوه، وتزاحموا من أجل مصافحته وتقبيل يده، وفى مشهد يوحى بأنه أحد أولياء الله الصالحين، وتفاعل الإمام الأكبر مع محبيه، وأصر على مصافحة كل يد تصل اليه بحميمية لم أعهدها إلا فى قراءاتى لسير الزهاد ومريديهم.
تجسد أمامنا المكان فى مساحة تبلغ حوالى50 ألف متر، وعبارة عن قاعتين فسيحتين، الأولى بها ساحة كبيرة بجوار المسجد، ومليئة بالطاولات والمقاعد الخشبية البسيطة، ويطلق عليها ساحة الفقراء، والثانية بها عدد كبير من المقاعد الصعيدية والمكسوة بفرش تقليدى، ولكنه نظيف للغاية، وفى المقدمة مقعد فضيلة الدكتور أحمد الطيب، وتراصت بالطول مقاعد يجلس عليها المتخاصمون أو أصحاب المشكلات، وفى أغلب الأوقات يجلس الشيخ محمد الطيب الشقيق الأكبر للشيخ الطيب فى مقعد القيادة، لانشغال الإمام الأكبر بمهام عمله فى المشيخة.
وقف فضيلة الدكتور أحمد الطيب على باب قاعة الضيوف، ليستقبل الزائرين بعد أن فرغوا من أداء صلاة الجمعة، وبدأ يستمع إلى بعض الشكاوى، ووعد بحلها، ثم جلس الإمام الأكبر فى مكانه المخصص، وتبادل أطراف الحديث وكلمات الترحيب مع الحضور، وأثناء ذلك كان ينظر لجميع الموجودين، وكأنه يتحدث إلى كل شخص على حدة، وتلك إحدى السمات المميزة لشخصيته، والتى استمدها من آبائه وأجداده «آل الطيب».
وهنا دعا د. الطيب الجميع لتناول الغداء فى قصره المنيف، وهناك انتهزت قربى من الإمام الأكبر، وسألته: ما هى الطريقة الخلواتية التى تسود الساحة، ومدى تأثيرها فى شيخ الأزهر د. أحمد الطيب؟
قال الإمام الأكبر: أريد أن أصحح معلومة تتداولها وسائل الإعلام، وهى أننى لست شيخا للطريقة الأحمدية الخلواتية، ولكن أنتمى إليها، أما شيخها فهو شقيقى الأكبر الشيخ محمد الطيب.
وبصوت خفيض اعترف شيخ الأزهر بتواضع مفرط: إننى لا أملك مقومات الزهد الصوفى.
وعن تاريخ هذه الطريقة الصوفية قال: جدى درس بالأزهر، والتقى بالشيخ أبو بكر الحداد، وكان عالما بالأزهر، وشيخا للطريقة الخلواتية، وقد أتت من الدولة العثمانية، ومن أهم شيوخها الإمام أحمد الدرديرى، وهو أحد أهم الفقهاء، وما زالت كتبه تدرس حتى الآن فى الفقه المالكى فى كلية الشريعة بجامعة الأزهر، وتعتبرمن المراجع الكبرى..
وكان أهم ما يميز هذه الطريقة، أن شيوخها من علماء الأزهر، ولمس الشيخ الدرديرى فى جدى الصلاح والتقوى، فأذن له أن ينقل هذه الطريقة معه إلى أهلنا فى الصعيد، وجاء من بعده والدى الذى درس فى الأزهر القديم، لأكثر من 20 عاما ابتداء من الكتابة على الفروة واللوح، ومع ذلك عندما تأهب والدى لدخول الامتحان النهائى منعه والده – وأنا أسرد هذا الكلام عن والدى، وأنه اكتفى بما جمعه من علم، وعاد إلى البلدة، لكى يعلم الناس الدين والعلم والقرآن» حسبة لوجه الله تعالى.
وهنا قال الإمام الأكبر فى جملة استفهامية: «يبدو أن هذه العائلة بها شئ من الديكتاتورية الروحية».
لاحظت أن شيخ الأزهر ذكر والده بعبارات مليئة بالوقار والتوقير والفخر، وأنه كان عالما وتلقى العلم على يديه، فهو لم يكن والده فقط بل هو والد وأستاذ، وقال: والدى كان شخصا صارمًا لا يميل إلى مباهج الدنيا وجمالها، يحب حياة العلم والعزلة.
كان الجد ميسورا، ولديه قطعة أرض كبيرة يعيش عليها جميع أفراد الأسرة والمحيطين بنا، لذا أنشأ ساحة ومسجدًا، وكانت هناك ساحة قديمة، هدمت بعد قرار هدم «القرنة» القديمة، ولكن المسجد موجود حتى الآن، وأنا ولدت وتربيت فى بيت العائلة بجوار الساحة، وكانت تعرف بساحة الفقراء والذاكرين والعباد، ونشأت فى هذا الجو، وكان لا بد أن أتأثر به.
وعن الطريقة الخلواتية قال:إن الشيخ الدرديرى هو الشيخ الأول للطريقة، وكان يقول أنها مرتبطة بالشريعة كليًا وجزئيًا، ومنهاجها علم فى المقام الأول، ثم بعد ذلك يأتى التجرد الروحى.
والطريقة تهتم حسب قول الإمام الأكبر بحل مشاكل الفقراء وغيرهم، ونزاعات الطلاق والزواج والإرث والخصومات الثأرية، التى لفتت انظار القضاة الذين كانوا يتوافدون على الساحة قائلين: إن قضايا الثأر قد تحل فى يوم أو يومين بساحة الطيب ، ولا نستطيع حلها فى ساحات المحاكم لسنوات طويلة.
وهنا توقف الإمام الأكبر عن الكلام، ليرحب بضيوفه.
طلبنا التحدث مع رئيس دولة الزهاد والفقراء الشيخ محمد الطيب، وهو أعلى قامة فى الساحة، ورجل تكسوه المهابة والوقار، وتواضع العلماء، ويقابل الناس بوجه بشوش وبسام، وتبادلنا معه أطراف الحديث، وقال: إن هذه الساحة ترجع إلى جدى أحمد الطيب المولود قبل 1850 ميلادية، ومهمتها الأساسية تقديم «التنمية الروحية»، وحل مشاكل الناس، وإزالة الخلاف بينهم وإقامة الحق والعدل، وتقديم المساعدة للمحتاجين والأرامل واليتامى، وأيضا ملجأ وملاذ للذاكرين، وكل شئ منظم ويسير فى طريقه الصحيح ، وهى ليست قاصرة على أهالى الأقصر ومحافظات الصعيد، بل نستقبل زوارنا من كل بقاع مصر.
وعند سؤاله عن أنواع الزائرين، صمت وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة، وقال «اتنين» من الزوار، الأول محب لساحة الطيب وزيارة مسجده، وقضاء وقت بين دروس العلم والأذكار، والثانى يأتى من أجل حل مشكلة، ومعظمها تتعلق بالإرث، لأن ميراث السيدات فى صعيد مصر، ظل لفترات طويلة لقمة سائغة فى حلوق إخوانها من الرجال..
تابع الشيخ محمد بقوله: وأنا هنا أقوم بإحضار جميع الأطراف، ومع زيادة الناس ومشاكلهم، قمنا بتعيين مساعدين لنا فى أغلب محافظات صعيد مصر، وهم أشخاص نثق فيهم وفى إخلاصهم وقدرتهم على التأثير، ومع استحداث أساليب الاتصال الحديثة، أصبح تليفونى معروفًا للجميع وتعرض على المشكلة شخصيًا أو عبر الهاتف.
الحب والطاعة
وعن مراسم وخطوات الفصل فى النزاعات، ابتسم الشيخ محمد الطيب قائلا: أولا أقوم باستدعاء طرفى النزاع، ولم يحدث مطلقا أننا استدعينا أحدا ورفض المجئ، فهناك حالة من الحب والطاعة غير عادية تجاه هذه الساحة، وأول شئ أن أعطيه حقه واحترمه، ويوافق على كل ما يعرض عليه لحل أى مشكلة، وفى ساحة الطيب المظلوم يستجيب والظالم يستجيب، دون ضغوط، بل عن اقتناع وطيب خاطر.
تابع الشيخ محمد الطيب: وأظل أتحدث مع طرفى الخصومة عن شهامة الرجال وقوة الكلمة، وأتلوا كلمات الله، وأقوال الرسول والعلماء والحكماء، وقبل التعرض للمشكلة، نقدم واجب الضيافة من مأكل ومشرب، لأن الجلوس على مائدة الطعام فى عاداتنا لها شروط، وهى الالتزام بما ستعهد إليه، وكذلك تطيب القلوب، فليس من الجيد أن أهاجم الشخص أو أنهره أو أقلل من شأنه، إلى جانب مناداته بأطيب الأوصاف.
وهنا نادى على أحد أبنائه وقال له: «أحضر لنا اليانسون» وهو المشروب الرسمى بالساحة، وطلب منى مواصلة الحديث، فبادرته بسؤال عن كيفية حل المشكلات التى تقع بين المسلمين والمسيحيين، فقال: «إن أغلبها حول أرض يستأجرها المسلم من المسيحى، يحدث فيها نوع من الطمع من جانب المسلم وينتابه أحساس أن حق المسيحى يمكن التغول عليه، ومن هذه المشكلات أعداد كبيرة.
وسرد الشيخ محمد الطيب قصة أحد القضاة الكبار، وكان من الأقباط ، وقال: جاءنى يوم جمعة وشكا لى بأن له بجوارنا أرضًا مستأجرة لمسلم، وامتنع عن دفع الإيجار، فكره هذه الأرض وعرضها للبيع لهؤلاء المستأجرين، ورحبوا بذلك لأنهم سوف يشترونها بثمن زهيد، ومع ذلك وافق على البيع بهذا المبلغ، وكتبا عقدا بذلك..
ولكن الله اراد أن يوقع هؤلاء المستغلين، فهم عرضوا أن يقرأ العقد الشيخ محمد الطيب لأنهم أعتقدوا أن هذا القاضى، قد يدس بندا بخبرته فى العقد، ويستطيع إعادة أرضه مرة أخرى، وحضروا لدى جميعا، وقرأت العقد فوجدت ان المبلغ المباع به زهيد جدًا، وليس فى صالح القاضى المسيحى، فنهرت المشترى، وقلت له: أنا شيخكم، لو أردتم أن تبتاعونى هذه الأرض فكم تطلبون منى، فصمتوا قليلا، وقالوا على السعر الحقيقى للأرض، فقلت لهم: إما أن تذهبوا وتحضروا لهذا القاضى باقى المبلغ، أو أننى سأشترى هذه الأرض، بأعلى سعر، فوافقوا على السعر الأعلى..
وهنا ذهل القاضى وفرح فرحا شديدًا، وأراد أن يتبرع بجزء من هذه الأموال إلى الساحة وزوارها وفقرائها، فقلت له: إن كنائسكم بها فقراء كثيرون فهم أحق وأولى بذلك، فقال لى: هل تسمح أن أعبر عن ذلك، فقلت: كما تشاء، وبعدها بأيام، كتب مقالا بإحدى الجرائد، وسرد فيها كل الوقائع التى دارت فى الجلسة، وقال فى خاتمة مقاله: «إن كان الإسلام بهذا الشكل فيا إلهى أعز الإسلام بهؤلاء».
انتقلت إلى سؤال آخر حول من يأتون إلى الساحة، ليشهروا إسلامهم، وبدت على ملامح الشيخ محمد عدم الرضا عن السؤال، وقال: هذه الساحة يأتى إليها الكثير كى يشهروا إسلامهم ، وأول شئ أقوله لهم – بأن الإسلام ليس فى حاجة لكم، وقد يأتى إلينا مسيحيون توفيت زوجاتهم ويريدون الزواج، فيدخلون الإسلام من أجل هذا الغرض وليس عن اقتناع بالدين الحنيف، وتأتى فتيات أعمارهن لا تتعدى 16 و17 سنة، وأقوم بإرجاعهن لأهلهن، بعد التأكد من عدم التعرض لهن بمكروه، وحتى لا يقعن فى العقاب الأسرى، ولكن إذا أصررن على ذلك، فأدلهم على جهات رسمية مختصة بذلك. «أطلق الشيخ محمد ضحكة، وقال: «أنا هنا يطلق على بأن نصفى شيخ ونصفى الآخر قس مسيحى».
وعن علاقته بأخيه د. أحمد الطيب شيخ الأزهر قال: أنا وهو شخصان فى روح واحدة، فأحيانا أراه الإبن، وأحيانا أخرى أراه الأب.
سمعة عريقة
التقينا أحمد كامل أحد أهم المريدين فى ساحة الطيب، ويعمل مديرًا عامًا بالجهاز المركزى للمحاسبات، وعضو لجنة المصالحات التى تعقد بالساحة، وبادرنا قائلاً: عائلة الطيب لها سمعة عريقة فى مجال المصالحات، والتدخل لحل مشكلة أى إنسان مهم كان دينه أو جنسه، شريطة أن يكون موقفه سليما مائة فى المائة.
أضاف كامل: لقد تربينا منذ طفولتنا على المجئ إلى ساحة الطيب، لتلقى البركة من والد الإمام الأكبر رحمه الله، وصارت عادة كل القرى بل والمدن المحيطة بالأقصر، القدوم إلى هنا للتباحث فى الشئون العامة، وتعودنا على الاستقبال الجميل من «آل الطيب» صغيرًا وكبيرًا، ووجوهم التى يشع منها النور .
من جهته، قال عبدالناصر إبراهيم الطيب ابن عم الإمام الأكبر: إن ساحة الطيب ليست وليدة اليوم، كما يتخيل الكثيرون، بل أنشئت قبل مائتى عام، ومنذ ذلك الحين تلعب دورا مهما فى حل الخصومات ومواجهة الأزمات التى قد يتعرض لها المواطن الصعيدى بشكل عام، ومواطن جنوب الصعيد بشكل خاص، وهناك مشكلات يتم حلها من خلال أسرة الطيب، والبعض الآخر يتدخل فيها الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب بنفسه.
وأوضح عبدالناصر أن نظام الساحة له قواعد خاصة لسير العمل، ولكل فرد مسئولية، فيما يشبه نظام الدولة، فلدينا عمد مسئوليتهم تقارب مهمة الوزراء، ولدينا مسئول مراسم الساحة، ومهمته التنسيق بين جميع الأجهزة التى فى الساحة، وسر النجاح هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى وبركة جدى الشيخ الطيب.
عندما جاء ذكر الشيخ الطيب الجد، ردد المتواجدون معنا فى الساحة، والبالغ عددهم حوالى 500 شخص فى نبرة واحدة: «رضى الله عن سيدى الطيب» بصوت جلجل أركان المكان، وعلمت فيما بعد بأنها طقوس يتم ذكرها عند سماع اسم «الشيخ الأكبر».
قال عبدالناصر: إن كل مشكلات المدن والقرى فى الصعيد تصب فى ساحة الطيب، ولذلك تم تشكيل لجان متخصصة، وهناك مندوبون من كبار العائلات، وشخصيات رائدة فى خدمة مجتمعها، وحسنة السير والسلوك، ولديها القدرة فى التأثير والإقناع، ويوجد لجان من أسوان حتى أسيوط، ووضعنا فى ساحة الطيب حلولا عادلة لكل النزاعات.
ذكر عبد الناصر: إن جدى الأكبر الشيخ الطيب، كان يملك أكثرمن مائة فدان، واليوم تم وقف 80 فدانا للصرف على الساحة وفقرائها، لأن أبناء الشيخ الأكبر ميسورون، ولديهم وظائفهم، ووقف الأرض لوجه الله تعالى.
الصفح الجميل
التقط خيط الحديث العمدة شلبى، وهو رجل طويل القامة أسمر اللون، وأحد أركان ساحة الطيب كما يصفونه، وقال: إن آل الطيب لا يتركون مشكلة دون التدخل فيها، ونحن هنا فى الساحة نعمل على أن يكون تدخلنا دائما فى الوقت المناسب، والأمر ليس مقتصراً على حالات الثأر فمؤخرًا على سبيل المثال، كانت ساحة الطيب مكانا لوقف مسلسل النصب باسم توظيف الأموال وانتشارها فى الصعيد خلال الفترة الاخيرة،.وكذلك جرائم توليد الدولارات، والنصب باسم تجارة الآثار..
وهو ما جعل الإمام الأكبر يحذر منها كثيرا خلال جلساته فى الساحة، وينبه على رموز العائلات كى ينشروا ثقافة الاستثمار الصحيح، وتجنب وقوع بعض أهالينا فى شراك النصابين، ونحن لدينا أشخاص متخصصون فى التصدى لجرائم النصب، وهم من أبناء عمومتنا فى أحدادين وأرمنت بقنا، حيث يأتون على وجه السرعة بعائلة النصاب إلى الساحة، ونقوم بالتدخل لعودة الأموال المنهوبة إلى أصحابها.
وأضاف العمدة شلبى: إن آل الطيب لا يتوقفون عن حل المشكلات طيلة 24ساعة، وقد بدأ الشيخ احمد الطيب فى اقناع كل المتخاصمين بالصلح الحسانى – الذى يعنى الصفح الجميل، وهو العفو بدون شروط، بجانب الصلح العادى الذى يتم فيه توقيع إيصالات غرامة من كلا الطرفين المتخاصمين، ومن يبدأ بنقض الصلح يتم تغريمه على الفور.
تنهد العمدة شلبى تنهيدة طويلة وقال: نحن لدينا شخصيات متخصصة فى كل لون من ألوان المشاكل، فعلى سبيل المثال، الحاج كمال أبو موافى مهمته ضبط كل من يغش فى الموازين، والعمدة فرج متخصص فى مشكلات الثأر، وأيضا العمدة صبرى المتخصص فى قضايا سرقة أنابيب الغاز والخزائن الحديدية، وهو بمثابة وزير داخلية أمن «ساحة الطيب».
أوضح شلبى: نحن لدينا خزينة ضخمة تحتل غرفة كاملة فى الساحة، وبها كل الوثائق والمستندات الخاصة بالمصالحات، وكذلك سجلات مدون بها أسماء المتخاصمين وطرق الحل وإيصالات الأمانة، فهى بمثابة شهر عقارى معترف به، مادام قد سجل فى ساحة الطيب.
وصف العمدة شلبى الشخص الذى يتم استدعاؤه للقاء الإمام الأكبرفى ساحة الطيب، أنه يأتى وقد تصبب عرقا من القلق والتوتر، ولا ينطق إلا بالصدق خوفاً من تداعيات الكذب فى الساحة، ويقينه أنها سترتد عليه بما لا يحمد عقباه.
ألمح شلبى إلى أن الطيب الكبير، نجح فى اقناع عشرات اللصوص، وقاطعى الطريق بالعودة عن سلوكهم الخاطئ، ليتوبوا إلى الله ويصبحوا من الأتقياء، والتاريخ يشهد بذلك، عندما تحول هؤلاء اللصوص إلى زهاد ومتصوفة، وكانوا بأعداد كبيرة، وخدموا الساحة فى الخير.
الأرواح الطائرة
الساحة مكان له عالمه الخاص، ويعج بالزائرين من كل لون، ولم يبرح خيالنا حلقات الذكر للزهاد، وعند دخولنا المسجد لم يشعر بنا أحد، فالكل ذاهل عن الوجود، ويشطح بجسده، وروحه تحلق فى فضاء سماوى..
كذلك، تجرد قراء الأوراد من كل شئ فى الدنيا، وذابوا فى صفات الله وجماله، ولم ينظر إلينا هؤلاء الزهاد، ونحن نقوم بتصويرهم، ولم يتحرك لهم ساكنا، فهم فى ملكوت آخر، وأرواحهم تطير فى السماء، ولم نجد شخصا يجلس منفرداً، فالكل فى مجموعات إلا كبارالسن المنزوين فى آخر زوايا المسجد العتيق..
اقتربت من الحاج مصطفى «80 عاماً»، وسألته: متى تقام هذه الأذكار فى المسجد، فقال: يا بنى تقام ثلاثة أيام فى الأسبوع، وأهمها يوم الجمعة، وتبدأ بعد صلاة العصر إلى قيام صلاة المغرب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال إن قيام الساعة سيكون ما بين صلاة العصر والمغرب يوم الجمعة، ونحن هنا نحيى هذه السنة، عسى أن نلقى ربنا، ونحن من الذاكرين أسوة بسيدنا الشيخ الطيب رحمه الله، الذى كان مداوما عليها.
غادرنا الساحة، وظل خيالنا يحلق فى أرجاء المكان، وتخايلنا أصداء المشاهد الآسرة للقلوب، وهذا الفضاء الذى يحوى أسراره، ويكسو زائريه بالوجل والعشق، لتحلق نفوسهم فى فيوض رحمانية، وتصاحبهم كرامات من دفنوا وماتوا، وهم يعشقون لقاء الله وحب رسوله وأوليائه.. حقا إنها رحلة إيمانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.