كلما هلت نسمات شهر ذى الحجة وقلوب المسلمين قبل أصواتهم تعلو بالتكبير والتهليل والتلبية يحيون شعيرة الفرار إلى الله طائعين مختارين وملبين دعوة الكريم سبحانه لزيارة بيته أملاً فى العودة المطهرة بمولد جديد، بعد حوار سرمدى وجدانى بين العبد ومولاه تسمعه ملائكة السماء فى معزوفة روحانية قوامها «لبيك عبدى لبيك.. لبيك وسعديك». والواقع فقد عرفت البشرية أنماطاً مختلفة من الحج تتمحور جميعها حول القداسة والتبجيل والانصياع التام للمقدس كائناً من أو ما كان، ومن ثم ليس بمستغرب أن نعرف أن ما يربو على خمس وثلاثين مكاناً تمثل مزارات مقدسة للحجيج بمعتقداتهم المختلفة عبر العصور سواء ما اندثر منها أو ما يزال قبلة لعُبًاده. ولعل إصرار المصرى القديم على الحج لأبيدوس وتلمس البركات والإذن بارتياد العالم الأخروى من المعبود أوزير (أوزيريس) إنما يمثل نموذجًا لتاريخية التقوى بالحج، هذه التقوى عبّر عنها المتعبدون فى شتى بقاع الأرض بل وعددوا من مزاراتهم التى كان ارتيادها بمثابة التوحد بين المعتقد وجدانيًا ومقدساته مكانيًا. الأمر الذى كان يعنى حالة من التجسيد الإيمانى أو التطبيق العملى للولاء العقيدى، وهو ما يدعم مفهوم القداسة الذى لم تبرحه البشرية منذ صار التدين صنوًا لحركة البشرية عبر تاريخها الطويل. ولعل استبقاء بعضًا مما درج عليه العرب من شعائر قبل الإسلام ليمارسه الحجيج ببيته الحرام وما حوله حتى يومنا هذا بدءًا من يوم التروية وحتى الطواف والأضحية وغيرها، إنما يؤكد على قيمة احترام المألوف من شعائر الحج ليصبح بذاته ركنًا من أركان العقيدة الخمسة. وهى قيمة ترقى لمستوى الفضائل حال تمثلها فى السلوك الإنسانى لأن الخبرات البشرية حالة تراكمية تهذب من نفسها وفق الأعراف السائدة وترتقى بنفسها وفق الأوامر الفوقية بالانصياع والتسليم. يبد أن حديثنا اليوم لم يكن مقدرًا له تناول الحج وتاريخه فى مسيرة البشرية رغم متعة التماشى مع الحالة الوجدانية العامة التى نعيشها بالوصال الوجدانى مع ضيوف الرحمن والمشاعر المقدسة، بل يأتى استلهامًا لجوهر الحج دعوة وتلبية. حيث الداعى هو الوطن و الملبى هم أبناؤه الأوفياء الذين لم يخذلوه يومًا فى الملمات والأحداث الجسام حيث جاءت أقداره لتصيغ هذه العلاقة السرمدية، التى جعلت من الوطن قدسًا من أقداس الانتماء وصاغت من المواطنة عقدًا قوامه الدستور بكل مواده والانتماء بكل ولاءاته. وبالطبع فإن نداء الوطن لنا اليوم يستأهل التلبية فى مناحى شتى دونما تقاعس أو تردد حيث أن الظروف التاريخية بمنعطفاتها الاستثنائية لا تحتمل قرارات ازدواجية أو توجهات انفعالية. نعم .. لبيك يا وطن لبيك.. لمواجهة مَأْسسة الفساد ودولته العميقة بدفع الشرفاء لمقدمة المشهد وفضح سبل الفساد والمفسدين، فذكر الفاسد فضيله كى يتجنبه الناس. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لإعلاء دولة العدل بالقانون وتكريس قيمة العدالة لتظلل الجميع، فالله إنما يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لتكريس مفهوم الحرية المسئولة التى تشعر كل فرد بقيمة وجوده وقدرته على الحركة التى تنتهى عند حدود الغير، فالحرية المطلقة مفسدة مطلقة. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لنحترم تاريخك زهوًا بأمجاد الأقدمين وأملاً فى عطاء الحاضرين واستشرافًا لمستقبل القادمين، فأمة بلا تاريخ أمة بلا مستقبل. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لفهم معنى التعددية واحترام الآخر لكون التعددية سنة كونية من نواميس المولى فى خلقه وحكمته البالغة فيهم، فالأحادية المقيتة هاوية سحيقة. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. ليصبح العلم نبراسًا والإيمان هاديًا ليتحقق شعار دولة العلم والإيمان بالفعل لا القول، فالعلم ضمانة الملك والإيمان أمانة. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لحماية عرينك من كل معتد أو غاصب، فكم مرت عليك من خطوب الأعداء فلم يجنوا سوى حسرة الخسران، فلسوف تظل بقوة أبنائك مقبرة الغزاة. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لبناء مؤسسات الدولة من جديد ليتغير بها وجه زمانك الندى ولا تخلط بينها الأوراق، فمن أقام أول دولة فى التاريخ يعلم أن دولة الحضارات هى دولة المؤسسات. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لنرفع قدر من يعرف قدرك فيحفظك لتحفظه بلا إرهاب ولا ترويع ولا تنازلات أو قبول إملاءات، فالكرامة قيمة لا تقبل التجزئة أو القسمة. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لنحقق اكتفاءنا الذاتى بسواعد الشرفاء ونستلهم من تحالف قوى الشعب نحو الأفضل دستور حياة، فالفرقة ضعف والعصبة دومًا لأولى القوة. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لنسحق التمييز بكل أشكاله سدًا للذرائع ودرءًا لأبواب قد لا تدخل منها ريح التفرقة بل ستقتلع البنيان ذاته، فالمساواة وتكافؤ الفرص هى نسمة الوطن الشافية من وهج التفرقة. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لنردم الفجوة المفتعلة بين الأجيال كى يتعافى جسد الزمان الوطنى فى تناغم عضوى، فلا إقصاء للكبير لكبره ولا تهميش للصغير لصغره. نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لتجعل من ذراعيك حضنًا ومن أرضك منزلاً ومن ثراك مرقدًا لكل من جعل من اسمك أنشودة أبدية وترنيمة مقدسية ينشدها مهما باعدت بينك وبينه أوطان أو أزمان، فمصر هى (المحراب و الجنة الكبرى). نعم.. لبيك يا وطن لبيك.. لكل ما قد سبق من مناداة وما لم يسبق من مناجاة، عسانا نتسمع بقلوبنا ردك المرتجى لولائنا السرمدى؛ لبيك يا مصرى لبيك.. لبيك من مصر وسعديك.. وكل عام وأنتم والوطن بخير.