فى مدرسة لتحفيظ القرآن تابعة ل «جامع» صغير فى مدينة أزمير التركية بدأ «مولانا» التأسيس لإمبراطوريته الروحية والاجتماعية.. «مولانا» هو محمد فتح الله كولن الذى لا يعرفه الكثيرون فى مصر، أما القليلون الذين يعرفونه من «النخب» أو المهتمين بالمسألة التركية فربما يصنفونه داعية دينيًا، أو قائدا روحيًا لا يساهم بدور كبير فى السياسة على المستوى التركى أو الإقليمى أو العالمى.. وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق. مولانا يحتاج إلى دراسة وفهم عميقين لشخصيته ودوره ومساهمته فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية التركية وتأثير هذا الدور على السياسة والحكم ومستقبل تركيا القريب خاصة وأن هناك إشارات تنبىء بثورة قادمة فى تركيا تشبه إلى حد كبير ثورات الربيع العربى وربما يكون عنوان هذه الثورة وأيقونتها: محمد فتح الله كولن. (1) مثل الألحان الحماسية أو المارش العسكرى يتصاعد الصراع فى الداخل التركى ما بين فتح الله كولن وخصومه السياسيين الممثلين فى رجال حزب (العدالة والتنمية) الحاكم فى تركيا وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان وعبد الله جول رئيس الوزراء ورئيس الدولة الحاليين والأخير منهما صدّق قبل يوم واحد من كتابة هذه السطور (الأربعاء 11/3) على غلق عدد من مدارس المرحلة الإعدادية التابعة لمؤسسة «كولن» التعليمية التى تملك وتدير ما يزيد على ألفى مدرسة و20 جامعة متميزة فى مختلف التخصصات هذه المؤسسات التعليمية تنتشر ليس فى تركيا فقط ولكن فى عدد من دول آسيا الوسطى التى يعيش فيها من ينتمون لأصول تركية وهذه الدول يعتبرها كولن الامتداد الطبيعى لتركيا الامبراطورية الإسلامية. وإغلاق النظام التركى الحاكم لهذه المدارس المؤهلة لإعداد أجيال ذات تعليم أكاديمى مميز يتيح لها فرص أفضل فى المستقبل علاوة على ارتباطها بأفكار وقيم تيار حركة كولن يأتى فى إطار الحملة المنظمة التى يشنها الآن النظام فى تركيا ضد فتح الله كولن وأتباعه المنتشرين فى جهازى الشرطة والقضاء والذين يعتبرهم أردوغان وحكومته اللاعبين الرئيسيين الذين يقفون وراء تفجير قضية الفساد المالى المتهم فيها أردوغان وابنه بلال، وتأتى هذه الخطوة أيضًا قبل أسبوعين من إجراء الانتخابات البلدية فى تركيا المقرر لها 30 مارس الحالى والتى سوف تضع «التنمية والعدالة» حزب أردوغان وجول فى اختبار غير مضمون النتائج، فإما ترسخ شعبية هذا الحزب أو تكشف تراجع شعبيته فى الشارع التركى وبالتالى تهدد فرص مستقبله السياسى. (2) وإذا كانت الحرب تدور فى الداخل التركى بين أبناء أربكان الزعيم الروحى والسياسى للإسلاميين الذين استقر لهم الحكم فى تركيا (أو هكذا يبدو) وبين فتح الله كولن واتباع حركته الصوفية، فإن الدراسة المتعمقة لهذا الصراع تكشف أن خيوط اللعبة ليست بكاملها فى أيدى أطراف الصراع ولكن هناك من يمسك ببعض هذه الخيوط فى الغرب ويعمل على توجيه الأمور فى اتجاه مصالحه فى الداخل التركى،وفهم هذا الأمر يستدعى أولًا فهم موقف الغرب من تركيا ومن تجربة حكم الإسلاميين فيها، فالغرب الداعم لتركيا العلمانية لم يبلع هذا التغيير الذى قاده منذ السبعينيات نجم الدين أربكان لإعادة الوجه الإسلامى لتركيا تمهيدا لإحياء مشروع الخلافة العثمانلية، وأربكان الذى استطاع أن يصل إلى حكم تركيا عبر تولى رئاسة الوزراء عامى 97،96 بعد صراع طويل فى العمل السياسى ورفض لحزبه وأفكاره من الجيش وأنصاره من العلمانيين بدا فى النهاية أنه خسر معركته التى خاضها ضد العلمانيين، ولم تمض سنوات قليلة حتى أتى أبناؤه وتلاميذه أردوغان وجول ورجال حزب التنمية والعدالة ليستكملا مشواره بذكاء وبرجماتية يؤطرها حسابات دقيقة تم فيها مراعاة طموح أغلبية الشعب التركى فى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى وفى ذات الوقت مغازلة العالم الإسلامى بتصدير حلم إحياء دولة الخلافة الإسلامية له، هذا الحلم الذى يداعب الأصوليين الإسلاميين السُنة والشيعة فى العالم الإسلامى.. والغريب أن تيار أربكان ومن بعده أردوغان لقى دعمًا كبيرا فى البداية من حركة كولن وأتباعه، لكن فى المرحلة الحالية يبدو أن السبل تفرقت بحلفاء الأمس بعد أن أظهرت الممارسة السياسية لأردوغان وجول وحزبهما التناقضات بين أفكارهم ونهجهم وأفكار ونهج كولن وعلى أثر هذه التناقضات بدأت اتهامات تلوح فى الأفق ويبدو أن أردوغان وأنصاره هم الذين بدأوا الحرب على سياسات كولن وأنصاره ووصلت الأمور إلى حد تخوين كولن والمنتمين إليه وربط أفكارهم وأيديولوجيتهم بالغرب وإسرائيل ومصالحهما فى المنطقة. (3) أنصار أردوغان يرون ما يحدث فى تركيا الآن فتنة وابتلاء كبيرين، ومظاهر هذه الفتنة ليس فقط الخلافات مع فصيل «كولن» الإسلامى، ولكن هناك أيضا حرب العلمانيين والليبراليين التى تحولت إلى معارك فى الشارع التركى منذ أحداث ميدان «تقسيم» واندلاع المظاهرات فى المدن التركية، ويرى أنصار أردوغان أن الغرب يدعم هؤلاء العلمانيين ليضرب التجربة الإسلامية الفتية فى تركيا، وفوق ماسبق هناك هاجس آخر لدى أتباع أردوغان يستحضر هذا الهاجس مخطط إسرائيلى يرى الأردوغانيون أنه يستهدف ابنهم المدلل أردوغان الذى تحدى الدولة العبرية وهدد بكسر الحصار على غزة وزيارتها ترسيخًا لموقفه الداعم للقضية الفلسطينية وقضايا الأمة الإسلامية وعليه فإسرائيل تسعى إلى تأديبه (!!) (4) تعقيدات الداخل التركى مضاف إليها التعقيدات الناتجة بسبب الأحداث التى تفجرت فى منطقة الشرق الأوسط منذ انطلاق أحداث الربيع العربى، صنعتا هذا الصراع ووضعتا تركيا فى إناء يغلى مهدد بالانفجار إذا زادت درجة الغليان عن معدلها الحالى قليلا ولن تزيد هذه الدرجة إلا إذا قرر الغرب ذلك، وبعبارة أدق إذا قرر أصحاب القرار فى أمريكا التخلص نهائيًا من أردوغان وجول وهذا التيار ليصعد تيار كولن عبر أنصاره للحكم بعد أن يمضى سيناريو إسقاط أردوغان وجول إلى نهايته، (وما حدث فى أوكرانيا ليس ببعيد) ولاحظ أن حركة كولن أيضا إسلامية لكنها صوفية فهى بالنسبة للغرب ألطف وأهدأ، لكن حتى هؤلاء الصوفيين يراهم صُناع الاستراتيجيات فى الغرب مرحلة من مراحل الوصول إلى النهاية التى حددها من قبل «فوكوياما» و«هينتنجتون» فى صراع الحضارات وأساتذة الصهيونية الأوائل فى الهيمنة على الشرق الأوسط.