أعترف لكم بأن العنوان الأقرب للموضوع هو «إنها مصر» وكما جاء فى كلمات فضيلة الإمام الشيخ متولى الشعراوى رحمه الله.. ولكنى تراجعت ولجأت إلى العنوان المنشور بعد أن استمعت إلى حديث بين رجلين أحدهما ميال إلى الإخوان لأنهم «بتوع ربنا».. وكأن غيرهم «بتوع إبليس» والعياذ بالله.. وارتفعت درجة حرارة الحوار لا الإخوانى تراجع عن أفكاره رغم أنه لا ينتمى إلى التنظيم.. ولا المصرى العادى المحب لبلده وجيشها وشرطتها.. تنازل حتى تدخل فى الحوار رجل جاء من أقصى المدينة يسعى.. يحمل على كاهله خبرات العمر والعلم.. أراد أن يفض الاشتباك بطريقة أخرى وسألهما: تعرفوا إيه عن مصر؟! نظرا إلى بعضهما فى استغراب.. لكنه واصل حديثه فى هدوء وحكمة شارحا لتابع الإخوان كيف إنهم يكرهون البلاد المباركة التى تؤويهم.. وموضحًا للآخر كيف يحبها عن وعى ومعرفة وبما يليق. فاسمع لقول الرجل وقبلها فصلى على حضرة المحبوب محمد صلى الله عليه وسلم والفاتحة لشهداء الوطن عبر تاريخه المديد قال الراوى: فضّل الله مصر على سائر البلدان كما فضّل بعض الناس على بعض والأيام والليالى بعضها على بعض.. فضّل الله مصر وشهد لها فى كتابه بالكرم وعظمة المنزلة وذكرها باسمها وخصها دون غيرها وكرر ذكرها وأبان فضلها فى آيات من القرآن العظيم تنبئ عن مصر وأحوالها وأحوال الأنبياء بها والأمم الخالية والملوك الماضية والآيات البينات يشهد لها بذلك القرآن وكفى به شهيدا، ومع ذلك روى عن النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى مصر وفى عجائبها وذكره لقرابتهم ورحمهم ومباركته عليهم وعلى بلدهم وحثه على برهم مالم يقله عن غيرها من الأمم وهذا هو قول ربنا سبحانه فيها: ? (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً )َ (يونس 87). ? (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (يوسف 99). ? (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ )(البقرة 61). وأبعد هذا فإن فرعون كان يتباهى على غيره من الملوك لأنه يحكم هذه البلاد: ?( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي )(الزخرف51). وقال تعالى حين وصف مصر وما كان فيه آل فرعون من النعمة والملك بما لم يصف به مشرقا ولا مغربا ولا سهلًا ولا جبلًا ولا برًا ولا بحرًا. ? ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27 )(الدخان 25 - 27). وروى عن النبى محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال «ستفتح عليكم بعدى مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لكم منهم صهرًا وذمة».. وعنه أيضًا « إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما». فأما الرحم فإن هاجر أم إسماعيل زوجة نبى الله إبراهيم عليه السلام مصرية - ناحية الفرما وهى مدينة كانت قريبة من الإسكندرية.. وهاجر يقال لها «أم العرب». وأما الذمة فإن النبى صلى الله عليه وسلم ارتبط بمارية القبطية أم ابنه إبراهيم وهى امرأة من الصعيد وتحديدا من ناحية ملوى بالمنيا. وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ستكونون أجنادا وخير أجنادكم الجند الغربى فاتقوا الله فى القبط». وقال أيضا: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا فذلك الجند خير أجناد الأرض».. وهنا سأل أبوبكر رضى الله عنه: ولم ذلك يا رسول الله؟ فقال: لأنهم فى رباط إلى يوم القيامة. من مصر تزوج أنبياء الله إبراهيم ومحمد ويوسف بل إن القرآن الكريم يذكر بعض أهل مصر ورجالها فى مواقع شتى وما هم بأنبياء ولا رسل: ? قال تعالى (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ )(غافر: 28). روى عن عبد الله بن عمرو أنه قال: القبط أكرم الأعاجم واسمحهم يدًا وأفضلهم عنصرا وأقربهم رحما بالعرب كافة وبقريش خاصة.. وروى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مصر أطيب الأرضين ترابا وعجمهم أكرم العجم أنسابًا». مصر هى التى احتضنت الصحابة الأكابر: الزبير بن العوام، المقداد ابن الأسود، عبادة بن الصامت، أبو الدرداء، فضالة بن عبيد، عقبة بن عامر وغيرهم.. واحتضت أهل العلم: الليث بن سعد وعبدالله بن وهب وعبدالله بن الحكم وأسد بن موسى ومحمد بن الحكم والمزنى والربيع المؤذن وأحمد بن سلامة وولد بها من الخلفاء: عمر بن عبدالعزيز وجعفر المتوكل على الله. ودخلها من الفقهاء: الشافعى وأبوسلمة بن عبد الرحمن، وعكرمة ومحمد بن إسماعيل بن علية وحفص الفرد وإبراهيم بن أدهم ومنصور بن عمار. وقد قال أبو بصرة الغفارى: مصر خزانة الأرض كلها وسلطانها سلطان الأرض كلها وقد قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ )(يوسف - 55).. ولم تكن تلك الخزائن بغير مصر فأغاث الله بمصر وخزائنها كل حاضر وبادٍ من جميع الأرض.. وجعلها الله تعالى متوسطة الدنيا سلمت من الحر والبرد للأقاليم الأخرى فطاب هواؤها ونقى جوها وضعف حرها وخف بردها وسلم أهلها من مصائب أهل الأقاليم الأخرى فكثر خصبها ورغد عيشها ورخص سعرها حتى قال سعيد بن أبى هلال: مصر أم البلاد وغوت العباد. وقد جاء فى الأثر عن حيدة بن شريح عن عقبة بن مسلم: حيث يقول الله تعالى يوم القيامة لساكنى مصر فيما يعدد عليهم من نعمته: «ألم أسكنكم مصر فكنتم تشبعون من خبزها وتروون من مائها امسكوا على أفواهكم».. وقال يحيى بن سعيد: جلت البلاد فما رأيت الورع ببلد من البلدان أعرفه إلا بالمدينةالمنورة ومصر. إلى هنا نظر الرجل الحكيم إلى مؤيد الإخوان يستطلع رد الفعل على وجهه وهل ينكر ما جاء فى كتاب الله وسُنّة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.. فيما يخص مصر.. وجندها؟!.. لكنه لم يجد إلا الوجه الأملس البارد الذى لا تقرأ على صفحته إلا الخواء والفراغ والعدم.. وهنا صاح المصرى بخفة ظله المعهودة ناظرًا إلى الإخوانى ساخرًا: