(وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً).. سؤال قد يتبادر إلى الذهن.. لماذا خُلقنا ضعفاء ولم نُخلق أقوياء؟ والإجابة تقول بسطحية: إن القوة هى السبيل للصراع على الحياة والاستقرار فى الأرض.. ولكن الحكمة والسبب القوى تقول إن خُلق الإنسان ضعيفًا ليكون دافعا إلى باب الله وليلوذ بحماه ويقبل عليه وليفتقر إليه.. والضعف وسيلة وليس هدفًا.. والضعف إرادة من الله كما قال تعالى:( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) ، ويقول: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا )، والتكليف يأتى على قدر طاقة الإنسان الضعيفة.. فمثلًا كان أوائل المسلمين والصحابة يمتلكون قوة الإيمان مع ضعفهم، ولكن يستطيع الواحد منهم قتال عشرة من المشركين، كما قال تعالى:( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ، ولعلم الله السابق إنه سيصيب المؤمنين ضعفًا فى قوة الإيمان فكانت الآية الكريمة: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ، أى أن المؤمن الحقيقى الآن لديه قدرة مواجهة اثنين من الذين كفروا. والضعف هو الفقر والحاجة ليستعين دائمًا بخالقه وليكون فى حالة احتياج مستمر إلى الله فيسعد بافتقاره إليه بدلًا من أن يشقى بالاستغناء عنه.. وفى نفس الوقت الضعف دعوة للتخلى عن الأولياء من دون الله سواء من أصحاب المال أو الجاه أو الحكام الطغاة.. فلا يعقل أن يستنجد مخلوق بمخلوق ويستعين به حتى ولو كانوا على قلب رجل واحد ويد واحدة، كما قال عز وجل:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) )فالإنسان الكافر والملحد يمجد ذاته ويرى بمنطقه الضال أن تفاعله مع أسباب الطبيعة هى القوة الكامنة للحياة.. وبعض المفكرين والفلاسفة مجدوا الذات مثل الفلسفة الوجودية التى ضخمت «الأنا» فى الإنسان وغفلت عن حقيقته العاجزة وكل هذه الدعوات تكسب الإنسان الغرور وعبادة الذات.. ويقول المولى سبحانه وتعالى:( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)).. وليعلم الإنسان فور إصابته بالغرور أنه جهولً وانحرف عن طبيعته وبعد عن الله وفقد بصيرته وصار أعمى عن حقيقة الوجود، وإنه لا محال إلى زوال.. فالتاريخ شاهد على مصير من ارتفع صوته وصرخ وقال «أنا» أمثال هتلر وموسولينى. إذا فالإنسان مخلوق ناقص وفاقد لكل كمال، ومن هنا تكون المنّة والإحسان من الله هى الافتقار إليه وفى هذا الطريق كمال الإنسان، فقد خلقت ضعيفا لتكون قويا بالله وخلقت فقيرا لتكون غنيا بالله.. وخلقت تائها لتكون معروفا بالله.. وقال تعالى:( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)).. فعلام يتكبر ويتجبر ويعاند خالق الكون؟ وعلام يقترف الذنوب من اختلاسات وقتل ونشر الفتن؟ أفلا يعلم إذا احتبس بوله لوقت قليل أو ارتفع ضغطه عاليا فجأة فماذا هو فاعل؟. وليعلم أن فى ضعفه تحررا له من عبودية نفسه التى لا تشبع ملذات الدنيا وحتى لا يصبح أسيرًا لعبادة الدينار، ولينطلق فى رحاب عبادة الله فى تكامل وانسجام مع الوجود كله وبفكر راق يسمو به فى آفاق العلم والإبداع ولتحقيق المعجزات ويتخطى بها حاجز المكان والزمان عن طريق ما سخر الله له قوى الطبيعة فصعد الفضاء وغاص فى أعماق البحار وصنع شتى المركبات.. وليعلم أن إيمانه بخالقه يكسبه مناعة الإصابة بالغرور.. ودائمًا يتذكر هذه الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ).. وإنه لا يستطيع أن يبلغ الجبال طولا ولن يخرق الأرض وفى العلم اكتشاف لعظمة الخالق وحكمته فى خلقه. وإذا أمعن النظر فى تاريخ حياته وجد ضعفه يقابله رحمة من الله.. فالجنين فى رحم أمه أمده بسبل الحياة وبعدما أن صار طفلا وليدا لا يقوى على شىء ولا يقوى على إطعام نفسه ولا يقوى على قضاء حاجته وضع الرحمة والحنان فى قلب الأم والأب لرعايته وعنايته، ثم شابا قويا لا يشعر بالأمان والاطمئنان إلا فى رحاب الله، ثم يصير شيخا ضعيفا كما بدأ فيجد رحمة الأبناء والناس من حوله تعينه على الحياة، ورحمة الله تلاحقه دائمًا فإذا كان مريضا فى شهر الصيام رخص له الإفطار، وإذا عصاه فتح له باب التوبة والغفران بالدعاء والاستغفار. والاستعانة بالصلاة والصبر والصدقة سبيل المعية مع الله ليمدك بالنصر والتأييد.