«المعونة الأمريكية»...عندما تتردد فإنها تثير فى أذهان وعقول الكثيرين معاهدة كامب ديفيد وعملية السلام بين مصر وإسرائيل والتى تمت تحت رعاية الرئيس الأمريكى كارتر عام 1979 بين الرئيس المصرى الراحل أنور السادات والإسرائيلى بيجين، إلا أن المتأمل فى تاريخ العلاقات المصرية الأمريكية يكتشف أن هذه المعونة أقدم من ذلك التاريخ ولكنها كانت تتخذ اشكال مختلفة ومتنوعة. البداية كانت فى شكل شحنات من القمح تلقتها الحكومة المصرية أو ما عرف وقتها ب «حكومة الثورة» عام 1953 فيما عرف بمشروع النقطة الرابعة الذى أعلنه الرئيس الأمريكى هارى ترومان كإطار لبرنامج للمعونات الموجهة من الولاياتالمتحدة إلى الدول النامية، وذلك فى سياق التنافس بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى ومحاولة منه لاستقطاب ثوار يوليو الذين أظهروا عداء مبكرا للاستعمار والإمبريالية العالمية عامة والأمريكية خاصة، وفى عام 1958 قدمت حكومة الرئيس الأمريكى أيزنهاور مساعدات اقتصادية لمصر بقيمة 164 مليون دولار فى هيئة ثلاث اتفاقيات تجارية، ولكنها سرعان ما توقفت بسبب توتر العلاقات بين البلدين واتهام الحكومة الأمريكية بالتدخل فى الشئون الداخلية لمصر وإلقاء الزعيم الراحل جمال عبد الناصر خطابه الشهير عام 1964 والذى قال فيه مقولته الشهيرة:«إن لم يرض الأمريكان عن أسلوبنا فليشربوا من البحر». وفى عام 1965 هدأت الأمور نوعا ما ووقعت القاهرةوواشنطن اتفاقيتين تمنح بموجبهما أمريكا 65 مليون دولار لمصر فى شكل معونات اقتصادية، لكن عبدالناصر أعلن رفضه لها بسبب ما تضمنتاه من قيود على مصر، وقال فى تصريح آخر شهير: «إن الحرية التى اشتريناها بدمائنا لن نبيعها بالقمح أو الأرز، لقد أوقفوا معونات القمح الأمريكية لأننا نتحدث عن إسرائيل ونفكر فى إنتاج الصواريخ والأسلحة الذرية». ومع نكسة 67 ازدادت العلاقات سوءا بين الجانبين وظلت العلاقات مجمدة حتى حرب أكتوبر 1973 المجيدة، وفى عام 1974 تقدم وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر باقتراح يقضى بإرسال كميات من القمح إلى مصر، ومع توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 صارت المعونات الأمريكية بشقيها العسكرى والاقتصادى جزءا من الضمانات الأمريكية للاتفاق بين القاهرة وتل أبيب، حيث أعلن الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت جيمى كارتر، تقديم معونة اقتصادية وأخرى عسكرية سنوية لكل من مصر وإسرائيل، تحولت منذ عام 1982 إلى منح لا ترد بواقع 3 مليارات دولار لإسرائيل، و2.1 مليار دولار لمصر منها 815 مليون دولار معونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار معونة عسكرية، لتمثل المعونات الأمريكية لمصر 57% من إجمالى ما تحصل عليه من معونات ومنح دولية، من الاتحاد الأوروبى واليابان وغيرهما من الدول، فيما لا يتجاوز مبلغ المعونة 2% من إجمالى الدخل القومى المصرى. وفى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك أصبحت المعونة الأمريكية أداة من أدوات الضغط والهيمنة السياسية والاقتصادية على مصر وفرض سياسات معينة كشرط لتقديمها مثل اشتراط الوكالة الأمريكية زيادة رسوم الصرف الصحى وفواتير المياه لتقديم منحة عام 1984 بمبلغ 166 مليون دولار، بالإضافة إلى تحرير تجارة القطن وخفض التعريفة الجمركية على واردات الأسمدة والسماح للقطاع الخاص بتوزيع الأسمدة ومنع الحكومة من تحديد سياسات سعرية للأسمدة لتقديم منحة الإنتاج الزراعى والائتمان وذلك عام 1994، كما اشترطت تخلى الحكومة عن سيطرتها على محصول قصب السكر ومصانع الغزل والنسيج والصناعات المحلية للأسمدة لتقديم منحة برنامج إصلاح السياسات الزراعية المبرمة عام 1995 بمبلغ 50 مليون دولار، كما أوقفت هيئة المعونة منحة بمبلغ 96 مليون دولار لتمويل مشروع مياه القاهرة الكبرى لتأخر المجلس المحلى لمحافظة القاهرة فى الموافقة على زيادة أسعار مياه الشرب، وربطت هيئة المعونة الأمريكية تقديم منحة لدعم قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية بمبلغ 118 مليون دولار بتطبيق سياسة تغيير الأسعار وأصدر وزير النقل قرارا بتشكيل لجنة لوضع الخطط والسياسات ولكن هيئة المعونة رفضت لأن عمل اللجنة يجب أن يتسم بالقدرة على تنفيذ القرارات وهو ما استدعى إصدار قرار من رئيس الوزراء، ولم تكن إجراءات الإصلاح التى اتخذتها هيئة كهرباء مصر مرضية للوكالة حيث لم تقم برفع سعر الكهرباء ولم يتم تعديل قانون إنشائها لتصبح هيئة مستقلة مما كان سببا لوقف المنحة المخصصة لدعم قطاع الكهرباء بقيمة 32 مليون دولار. فضلا عن كل ذلك فإن هيئة المعونة الأمريكية وقعت اتفاقية منحة مع مصر تقدم بموجبها 13مليون دولار لتمويل مشروعات الجمعيات الأهلية دون طلب موافقة مسبقة من وزارة الشئون الاجتماعية أو هيئة المعونة الأمريكية وذلك فى عام 1991، بل أوصت الاتفاقية بتشكيل هيئة استشارية مكونة من ممثلى هيئة المعونة ووزارة الشئون الاجتماعية وممثلين للجمعيات الأهلية لوضع السياسة العامة للمشروع ولكن التطبيق العملى أسفر عن عدم وجود أى ممثل لوزارة الشئون الاجتماعية لكى يشترك فى تقنين شروط حصول الجمعية على المنحة أو شروط استحقاقها وانفرد الجانب الأمريكى والموظفون التابعون له بهذه المعونة بالاتصال بالجمعية واختيارها دون أية مشاركة من الجهات الحكومية المصرية وتجاهلت هيئة المعونة مطالبات وزارة الشئون المستمرة لإشراك ممثلين عنها فى إدارة المشروع وعلى مدى 22 عاما ظلت هيئة المعونة الأمريكية تعبث فى الساحة المصرية، وعندما تقدم الولاياتالمتحدة منحة فإنها تشترط على مصر أن تستخدم أموال المنحة فى تمويل شراء سلع وخدمات أمريكية وشحن 50? من السلع والمهمات من ميناء أمريكى وعلى سفن أمريكية. وعقب ثورة يناير وبعد إثارة قضية التمويل الأجنبى لمنظمات المجتمع المدنى وتوجيه الاتهامات لنشطاء بينهم أمريكيين بالإضرار بالأمن القومى المصرى وإغلاق مكاتب لمنظمات حقوقية أمريكية فى مصر لوحت الولاياتالمتحدة بقطع المساعدات، وسرعان ما تراجعت لتعود وتقرر تعليقها عقب عزل الرئيس السابق محمد مرسى وتنظيمه المحظور جماعة الإخوان التى بدا أن علاقات استراتيجية وقوية تربطها بإدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما والذى ربط عودة المساعدات حتى انتخاب حكومة جديدة فى مصر، ليؤكد أن القرار الأمريكى جاء كرد فعل على رفض الجانب المصرى تدخلاتها فيما يتعلق بخارطة الطريق التى تتبناها الدولة المصرية حاليا. وتستهدف أمريكا من وراء المعونة الحفاظ على استقرار العلاقة بين مصر وإسرائيل، حتى أن الأسلحة التى يتم توريدها للجيش المصرى بمقتضى هذه المساعدات تصاحبها عقود تحظر استخدام هذه الأسلحة ضد إسرائيل، ولذلك كان من الطبيعى أن ينتاب الدوائر العسكرية والسياسية فى تل أبيب قلقا شديدا جراء القرار الأمريكى الأخير حتى أن مسئولين فى الكيان الصهيونى اعتبروا أن واشنطن تضع معاهدة كامب ديفيد بقرارها ذلك فى مهب الريح. والجدير بالذكر أن10% فقط من المعونة الأمريكية تستلمها مصر فى صورة نقدية، و28% لتمويل الواردات السلعية، و42% لتمويل مشاريع فى قطاعات مختلفة، 20% لتمويل توريد سلع زراعية وفق قانون فائض الحاصلات الزراعية الأمريكى، ولم يقتصر الأمر على تحديد بنود وشروط الصرف، وإنما تجاوز ذلك إلى الإشراف على التنفيذ من قبل هيئة المعونة الأمريكية، حتى لا تذهب المعونة إلى قطاعات لا ترغب الولاياتالمتحدة فى دعمها حتى إن كانت استراتيجية بالنسبة للجانب المصرى. ومنذ عام 1999 بدأت الولاياتالمتحدة فى خفض المعونة الاقتصادية المقدمة لمصر بواقع 40 مليون دولار سنويا، وبموجب هذا الخفض السنوى المستمر تقلصت المعونة الاقتصادية الأمريكية لمصر إلى 50% من حجمها عام 1998 لتصبح 407.5 مليون دولار فى عام 2009، ثم انخفضت إلى 250 مليون دولار عام 2010. ولاشك أن المعونة ساهمت فى تطوير وتحديث بعض الجهات الحكومية والخاصة عن طريق إمدادها بأجهزة الكمبيوتر وتدريب بعض المسئولين على الأساليب العلمية الحديثة فى الإدارة، كما أنها ساهمت فى تحسين بعض مشاريع البنية التحتية، ولا يجب إنكار أن عدم الاستفادة القصوى من المعونة يرجع بسبب ما إلى تقصير من الجانب المصرى الذى قبل المعونة دون أن يدرس شروطها بعناية، ودون أن يكون لديه خطة مسبقة لاستخدامها. ومع استمرار هذه المعونات اعتادت مصر عليها فقررت الولاياتالمتحدة أن تحول هذا الاعتياد المصرى إلى اعتماد، وذلك بتحويل المنح الغذائية إلى معونة اقتصادية سنوية لها قيمة محددة، وبنود صرف مخصصة، وشروط منصوص عليها، وإشراف على التنفيذ من قبل هيئة المعونة الأمريكية، وبعد تأكد الولاياتالمتحدة من عجز قدرة متلقى المعونة عن الاستغناء عنها أرادت تحويلها إلى تبعية وإملاء لشروط يؤدى تنفيذها إلى تدهور اقتصادى واجتماعى شامل وخطير.