وهذا أيضا أمير شاعر، ولكنه لم يكن فارسا مقداما مثل أبى فراس الحمدانى، وذكر أن سبب وفاته.. سقوطه من على ظهر حصانه، وقد حيرنى كثيرا، أنه يزيد بن معاوية ثانى خلفاء بنى أمية بعد أبيه معاوية ابن أبى سفيان، وتروى كتب التاريخ أنه أمر عبد الله بن زياد والى الكوفة بمحاربة الحسين بن على وأتباعه.. فهزمهم فى كربلاء، وبعد مقتل الحسين فى المعركة حملت رأسه ووضعت أمام اليزيد فى مقر حكمه بدمشق الشام.. فأخذ يعبث بها بعصا كانت فى يده، ولم يحترم حرمة الموتى التى أوصانا بها ديننا وجبلت العرب جميعا على احترامها على مر الزمان، فكيف لمثل هذا (الإنسان) الذى عبث برأس حفيد الرسول بعد أن فصلت عن جسده.. يصدر عنه هذه الأشعار الناعمة وتلك القصيدة الرائعة (وعضت على العناب بالبرد) والتى تغنى بها الكثير ومنهم مطرب السودان الشهير عبد الكريم الكابلى. والمشكلة أن كل من كتب عن أشعار اليزيد وقصيدته.. أشار إلى أنه كان مرهف الحس رقيق الطبع.. وأن عنف السياسة ومكرها لم ينعكس على أشعاره.. حيث يقول فى إحدى قصائده: خذوا بدمى ذات الوشاح، فإننى رأيت بعينى فى أناملها دمى ولا تقتلوها إن ظفرتم بقتلها بلى، خبروها بعد موتى بمأتمى أنه يطلب بثأره من تلك الحسناء التى رأى دمه فى أناملها، والثأر عنده ألا يقتلوها إذا عثروا عليها وإنما يخبروها بموعد مآتمه بعد مماته!! والغريب أنه يقول فى ذات القصيدة أنه عندما إلتقاها عاتبها على هذا الدم الذى رأه فى أصابعها فكان ردها عليه: وعيشك ما هذا خضابا عرفته فلا تك بالبهتان والزور متهمى ولكننى لما رأيتك نائيا وقد كنت لى كفى وزندى ومعصمى بكيت دما يوم النوى، فمسحته بكفى، وهذا الأثر من ذلك الدم بمعنى أنها لم تتزين قط بعد رحيله، ولكنها بكت عليه كثيرا حتى أسقطت دما، وعندما أرادت مسحه بكفيها علق الدم بأناملها! أما القصيدة التى نحن بصددها فبدأها بوصف محبوبته وكيف فعلت به.. فيقول: نالت على يدها ما لم تنله يدى نقشا على معصم أوهت به جلدى كأنه طرف نمل فى أناملها أو روضة رصعتها السحب بالبرد وقوس حاجبها من كل ناحية ونبل فعلتها ترمى بها كبدى مدت مواشطها فى كفها شركا تصيد قلبى به من داخل الجسد أنيسة لو رأتها الشمس ما طلعت من بعد رؤيتها يوما على أحد سألتها الوصل، قالت: لا تغرَّ بنا من رام منا وصالا مات بالكمد هذه الأبيات الجميلة الناعمة.. ذكرتنى بأبيات أخرى لا تقل جمالا قالها الشاعر العربى عبد السلام بن رغبان والملقب بديك الجن.. حيث قال: لما نظرت إلى من حدق المها وبسمت عن متفتح النوار وعقدت بين قضيب بان أهيف وكثيب رمل عقدة الزنار عفرت خدى فى الثرى لك طائعا وعزمت فيك على دخول النار ونعود إلى القصيدة الرائعة «وأمطرت لؤلؤا» لهذا الأمير الشاعر.. فبعد أن وصفها ووقع فى هواها. حذرته من الاقتراب منها.. لأن كل من حاول ذلك مات كمدا.. ولكنها وبمرور الأيام عادت وسألت عنه فأخبروها بحاله.. فتحسرت عليه وبكت وانتحبت.. وانهمرت منها الدموع غزيرة، وعضت بأسنانها على شفتيها.. وقالت إن أحدا لن يحزن على عزيز لديه كما حزنت عليه.. ثم يندهش الشاعر من الذين يحسدونه على هذا الحزن من قبل المحبوبة.. وهو ميت! ولكن الجمال كله فى وصف الشاعر للمحبوبة وهى حزينة عليه.. حيث دموعها لؤلؤ، وعينها نرجس وخداها ورد، وشفتاها عناب، وأسنانها برد.. ومن المعروف أن البرد هو ماء الغمام الذى يسقط كالندى فى الصباح الباكر، والمهم أن كل هذه الصور الجميلة جاءت فى بيت واحد فقط.. حيث يقول: واسترجعت سألت عنى، فقيل لها ما فيه من رمق، دقت يدا بيد وأمطرت لؤلؤا من نرجس، وسقت وردا، وعضت على العناب بالبرد وأنشدت بلسان الحال قائلة من غير كره ولا مطل ولا مدد والله ما حزنت أخت لفقد أخ حزنى عليه، ولا أم على ولد إن يحسدونى على موتى، فوا أسفى حتى على الموت لا أخلو من الحسد فهل قرأتم أجمل من ذلك. وأعود إلى ديك الجن الذى إلا أخفى إعجابى به.. حيث قال ذات المعانى وهو يودع محبوبته: ودعتها لفراق فاشتكت كبدى إذ شبكت يدها من لوعة بيدى فكان أول عهد العين يوم نأت بالدمع، آخر عهد القلب بالجلد جس الطبيب يدى جهلا فقلت له: إن المحبه فى قلبى.. فخل يدى نعم.. فالشكوى ليست دليل المرض.. وإنما العقل يعانى.. والجسم يتألم!