لرائدة العشق الإلهى رابعة العدوية أبيات من الشعر.. تقول فيها: أحبك حبين.. حب الهوى ..وحبا لأنك أهل لذاكا فأما الذى هو حب الهوى فشغلى بذكرك عمن سواك وأما الذى أنت أهل له فكشفك لى الحجب حتى أراك وكلنا نعلم أن هناك أنواعا مختلفة من الحب، منها ما هو شائع بين البشر قديما وحديثا وهو «الحب الحسى» وهى مشاعر تكشف عن نفسها بين الرجل والمرأة وغالبا ما تنتهى بالزواج، وهناك «الحب العذرى» والذى اشتهر به العشاق من بنى عذرة بالحجاز قبل وبعد الإسلام وكان من أشهرهم قيس وكُثير وجبيل وعروة وقد خلدت أسماؤهم وقصصهم بسبب أشعارهم فيمن أحبوهم ومنهن ليلى وعزة وبثينة ولبنى، وهى مشاعر وعواطف صادقة تنبع من القلب وبدون أى رغبات حسية.. وهو ما وصفه البعض بأنه «الحب.. للحب»، ومنه ما انتهى بالزواج ومنه ما تعثر وانتهى بوفاة المحبين. أما ما نحن بصدده الآن.. هو الحب الإلهى.. حب الذات الإلهية.. الخالق سبحانه وتعالى.. وهى مشاعر سامية تهفو بها الروح وينبض بها القلب نحو رب السموات والأرض وكلنانملك هذا الحب ونعيشه ونتمناه.. ولكن البعض يصل فيه إلى درجة ينطبق عليها قول الشاعر «والصب تفضحه عيونه» وهؤلاء هم المتصوفة الذين تفرغوا للتفكير والتأمل فى الكون وأسراره وقدرة الخالق.. وذلك من خلال الدراسة الوافية المتعمقة للآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، ومن الرواد فى هذا المجال الشيخ أبو حامد الغزالى ومحيى الدين بن عربى وذو النون المصرى وجلال الدين الرومى، حيث كتبوا فى ذلك وأشعروا وتغنى بكلماتهم المداحون وسارت على دربهم رائدة العشق الإلهى رابعة العدوية والتى أقبلت على الله بقلب محب ونفس صافية فتقبلها ربها بقبول حسن وأعطاها إمارات على ذلك.. حيث كان يستجاب لدعواتها فى مساعدة المرضى والمحتاجين. ونطقت بحب الله.. وقد أحبته حبين، الأول: أنه أعطاها القوة والقدرة أن تستغنى عمن حولها وأن تنشغل بحب الله وذكره فقط دون غيره، وأما الحب الثانى: والذى هو أهل له، والتى وصفته «بكشفك لى الحجب حتى آراك» أى أنها أصبحت قريبة من الله بصلاتها وصيامها وتفرغها للعبادة وعمل الخير وأنها ترى الله فى خلقه.. وكل هذا التنوع وهذا الجمال وكل يسبح فى ملكوته..بأمره.. ومن ثم لم تملك إزاء كل ذلك إلا أن تحمد الله أن منحها كل هذا الحب حيث قالت: فلا الحمد فى ذا وفى ذاك لى ولكن لك الحمد فى ذا وذا كا نعم.. فالله يستظل برحمته عباده المخلصين.. وهو القائل مخاطبا رسوله الكريم فى سورة القصص ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ). وكما قال فى آية أخرى بسورة البقرة (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) صدق الله العظيم. واقرأ معى بعض الآيات الكريمة التى تحكى عن قصة سيدنا سليمان والذى لقب بالحكيم.. ومنها ما جاء فى سورة الأنبياء فى قوله تعالى (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) والأيات تحكى هنا أن داود وسليمان يحكمان فى زرع رجل دخلت فيه غنم رجل آخر.. فأتلفته، فحكم داود بالغنم لصاحب الزرع فراجعه ابنه سليمان أن أرفق بهما، أى ادفع بالغنم لصاحب الزرع لينتفع بألبانها وأصوافها، ويسلم الزرع لصاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان عليه من قبل، لقد أوحى الله لسليمان بهذه الفتوى فأصاب الحق فى حكمه، وقد أتى الله داود وسليمان حكمه وعلما، وسخر لداود الجبال والطير يسبحن معا، ولسليمان الريح الشديدة التى تحمل بساطه يتحرك به فى كل مكان، وأخضع له الله الشياطين ومنهم الغواصون ومنهم البناءون.. لكن ماذا فعل سليمان إزاء كل هذه النعم؟ تقول الآيات فى سورة النمل إنه بعد أن ورث سليمان الملك والحكم من والده.. خرج للناس وأخبرهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ثم يحمد ربه ويعترف بفضله المبين، وعندما تجمعت جنوده والتى سخرها له الله من الجن والإنس والطير ومروا بوادى النمل.. قالت نملة لأخواتها( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ).. فالنمل ضئيل الحجم وقد لا يرى بالعين المجردة من على بعد، وتلك إمارة أخرى.. حيث تمكن سليمان والذى علمه الله منطق الطير وسخر له الإنس والجن، أن يسمع النملة وما تقوله لعشيرتها من النمل، فيبتسم وتنفرج أساريره حمدا وشكرا لله، ويطلب من الله أن يعينه على الاحتفاظ بشكر نعمته التى تفضل بها عليه وعلى والديه، وتعهد وألزم نفسه- شكرا وحمدا- أن يعمل عملا صالحا.. وبشرط أن يرضاه الله- فالأعمال درجات.. فما بالك بعمل يرضاه الله . ومرة أخرى.. عندما يجد عرش ملكة سبأ بلقيس بنت شراحبيل، موجودا بين يديه، بعد أن تمكن أحد اتباعه ممن لديهم علم من الكتاب (ولى صالح) أن يأتيه به من اليمن إلى أرض الشام قبل أن يرمش بعينه، يتجه سليمان إلى الله يحمده ويشكر فضله ويسأل ربه: أنك يا ربى إذا كنت تمتحنى أشكر أم أكفر واتكبر، فلقد علمتنا أن من يشكر فإنما يشكر لنفسه، فإنك يا ربى فى عنى وعن سؤالى وأنت الغنى الأكرم ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) *** نعم.. فالحمد لله فى السراء والضراء وسبحان القائل:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) صدق الله العظيم