ذا كان شر البلية ما يضحك مصداقا للقول الشائع والمتوارث عبر الأدبيات العربية فإن ما يحدث هذه الأيام على الساحة السياسية المصرية وهو بالفعل متخم بكل الشرور، ولكنها للأسف لا تضحك إنما تدمى القلب وتوجعه، وذلك لأسباب كثيرة لعل من أبرزها أنها توصم ثورتنا المصرية المباركة بما ليس فيها وبكل ما لا نتمنى لها، حيث إنها ثورة طاهرة جاءت لتنقذ شعبا طيبا ذاق من كل صنوف الحرمان والفاقة عبر ثلاثين عاما هى مدة حكم الرئيس السابق.. مما جعله يتوحد على كلمة رجل واحد فى مشهد نادر الحدوث فى التاريخ.. وذلك مما أذهل العالم بثورتنا التى جاءت بمعطيات غير مسبوقة، ويأتى تفردها أنها كانت ثورة بلا قائد.. وقائدها الخفى هو الشعب المصرى العظيم بكامله وبكل طوائفه على اختلاف أعماره، وتباين مشاربه الثقافية، وتضاد توجهاته السياسية. وأصبح للجميع هدف واحد يترجمه هؤلاء الثوار إلى شعار فى أربع كلمات بسيطة تحمل من البلاغة الفطرية ما يعجز عنه أبرع البلغاء «عيش - حرية - عدالة اجتماعية» وقد سبقه شعار المرحلة الأولى من الثورة والذى لا يقل عنه بساطة وبلاغة «الشعب يريد إسقاط النظام.. وتوالت الأحداث متتابعة ومبشرة بمستقبل مشرق فى ظل هذه الثورة المجيدة حيث سارت الخطوات نحو ترسيخ مؤسسات الدولة بانتخاب برلمان حر وبإرادة شعبية حقيقية لأول مرة منذ ستين عاما مضت.. وعلى نفس الدرجة من الشفافية جاء مجلس الشورى، وبعيدا عن الملابسات التى اكتنفت مؤسستى التشريع والتى كانت ولم تزل محل خلاف قانونى بين فقهاء القانون الدستورى بما يجعلنا نترك ذلك كله للقضاء المصرى الذى نتمنى له أن يظل شامخا مرسيا أسس العدالة والقانون. ثم نأتى إلى مرحلة تاقت لها قلوبنا وعقولنا معاً لأنها تمثل فى حقيقتها ذروة النجاح الحقيقى والمأمول لهذه الثورة وهى الانتخابات الرئاسية والتى أسفرت بعد جولة تبارى فيها ثلاثة عشر مرشحا تمثل كل أطياف القوى السياسية فى مصر لتشهد جولة الإعادة بين مرشحين فاز أحدهما بثقة الجماهير المصرية وبنسبة نادرة فى تاريخنا المصرى المعاصر بما يؤكد مصداقيتها وشفافيتها والتى لم نعتدهما فى انتخاباتنا عبر ستين عاما.. ليكون رئيسنا هو الدكتور محمد مرسى أول رئيس منتخب بعد ثورة يناير. وهذه الثورة التى سوف تكون محل دراسة وجدل للمؤرخين والمحللين للأحداث السياسية المعاصرة فى مصر، حيث إنها قد أظهرت فى بداية اندلاعها أفضل ما فينا من سجايا حسنة وصفات إيجابية، حيث توحدنا جميعا لنجاح هذه الثورة، وكان لنا ما أردنا بفضل الله باصطفافنا حول هذا الهدف الأسمى.. ثم مرت الأيام سراعا لتتبدل هذه الأوضاع ولتبرز على سطح الأحداث أسوأ ما فينا من صفات سلبية أقلها الانتهازية والأنانية السياسية والغيرة الحمقاء وكل الأفعال المنافية للموروث الحضارى المصرى والضارب بجذوره فى أعماق التاريخ الإنسانى.. وكل هذه المتناقضات قبل أن تسىء إلى مرتكبيها وهم بفضل الله قلة قليلة مارقة - فإنها تسىء إلى ثورة نقية وهى من كل هذه التصرفات الشاذة براء.. براء.. براء. وأنا هنا لست فى معرض تزكية لرئيسنا المنتخب الدكتور محمد مرسى فقد قام بهذه المهمة نيابة عنا جميعا شعب مصر الأصيل والذى بادله الرئيس مرسى عرفانا بعرفان حيث قال كلمته البليغة مخاطبا هذا الشعب الوفى ولأول مرة فى تاريخنا المعاصر: يا شعب مصر العظيم أنتم أهل السلطة ومصدرها وأردف قائلا فى ذات الخطاب بما يثبت تواضعه وثقته بهذا الشعب وحبه له: أنا ليس لى حقوق إنما علىَّ واجبات.. وهنا لنا وقفة مهمة مشفوعة بتساؤل أهم: هل كان يمكن أن نتخيل رئيسنا يخاطبنا بكل هذه الشفافية والنقاء والاحترام؟.. خاصة بعد تجارب الجمهورية الأولى حيث كان الرئيس يعيش فى برج عاج من التعالى الذى يصل أحيانا لدرجة العجرفة والتسلط.. وقد ظن الجميع بعد اكتمال مؤسسات الدولة بهذه الانتخابات الرئاسية التاريخية أن مسيرة الاستقرار قد ترسخت قواعدها لتثبت فينا أملا طال انتظاره فى نماء موارد الدولة تمهيدا لتحقيق أهداف الثورة «عيش - حرية - عدالة اجتماعية» بل أطلق البعض العنان لأمنياته بشكل مثالى دفعهم للأمل فى رفاهية يستحقها هذا الشعب الطيب. وتأتى الوقائع تترى لتصيب الجميع بخيبة أمل حيث افتعلت الأزمات بفعل فاعل مجهول أطلق عليه البعض وصف «الطرف الثالث» ومنها أزمة الوقود «السولار والبنزين» وجاء الدليل القاطع على افتعالها حين عثر على كميات هائلة منه مهدرة فى صحراء مدينة 6 أكتوبر وسائر المناطق الصحراوية الأخرى فى أرجاء المحروسة التى سرقها أصحاب الذمم الخربة .. وتبعتها أزمة الخبز رغم أن الدولة تضع دعمه فى مقدمة أولوياتها وتنفق عليه المليارات من موازنتها. ويكفى أن نعلم أن مصر هى الدولة الوحيدة التى تطلق على الخبز لفظ «عيش» لأهميته القصوى فى حياة المصريين.. وتتوالى الأزمات المصطنعة لتشمل مرافق الدولة الخدمية كالكهرباء والمياه وكل ذلك وفق رغبة شيطانية منكرة تستهدف زعزعة الدولة بفعل هؤلاء المتربصين لإيقاف مسيرة الاستقرار على أرض الكنانة. ويبدو أن المتربصين قد ضاقوا ذرعا وصدرا بصبر المصريين واحتمالهم لإنجاح ثورتهم وتحقيق أهدافها. وهنا تلاحقت الأحداث بشكل لافت لينتقل افتعال الأزمات إلى الشارع المصرى بعد أن خاب مسعاهم حين أخذت الدولة فى عهدها الجديد خطوات فعالة فى علاج فورى وسريع لكل ما أحدثوه من أزمات تمس الحياة اليومية للمواطنين.. وحينذاك لاح فى الأفق السياسى وصف آخر مبهم إلى جانب الطرف الثالث وهو «الدولة العميقة» ورغم ما يعترى هذا الوصف من غموض فإنه يقصد به ما تبقى من فلول النظام السابق فى سائر مرافق الدولة خارج القضبان ومحاولاتهم عرقلة الاستقرار المنشود واستمرارية المسيرة الثورية.. وقد رفض البعض وصف الدولة العميقة تحت دعوى أنه ليس كل من عمل فى الدولة إبان النظام السابق يندرج تحت هذا الوصف الغامض.. وقد يكون لأصحاب هذا الرأى بعض من منطق إلا أن الزعامات الوهمية التى طفت على سطح الأحداث مواكبة لما حدث من أعمال صبيانية متهورة يؤكد بالفعل أنهم مأجورون لحساب من لهم مصلحة فى تعكير الأجواء الإيجابية للثورة والحيلولة دون وصولها إلى ما يصبوا إليه شعب مصر وما يأمله فى ثورته.. وتأتى آخر هذه المشاغبات الساذجة والتافهة ما حدث يوم الجمعة قبل الماضى وحسبهم ما صادفوه من فشل ذريع واستنكار جماعى من كل القوى الوطنية المخلصة فى الشارع المصرى والتى توحدت على وصفهم أوصافا ذميمة وأقلها أنهم شراذم لا يدركون ما يريدون وأصحاب قضايا بوهيمية غير واضحة المبادئ بما يدل دلالة قاطعة على تفاهة مطالبهم وسفاهة مساعيهم وبعدهم عن أى منطق يقبله العقل. وإذا كان أصحاب هذه الأفعال الشائنة يبحثون عن دور بعد أن لفظهم الشعب ونالوا عظيم إحتقاره!!.. فإن واجبا حتميا يجب أن يجسد موقف هذا الشعب العظيم فى التصدى لهذه المحاولات المخرّبة والتى تهدد مستقبل الوطن وأمنه القومى.. وهنا تصبح الضرورة ملحة بالضرب بيد من حديد فى مواجهة هذا النزق السياسى لأن مصير أمة عريقة لا يصبح رهنا لأهواء مريضة ورؤى مشوشة لا تحمل هدفا قويماً يساهم فى صنع نهضة منشودة فى هذه الظروف الدقيقة التى تمر بها البلاد. وإن كنا أكثر حرصا منهم على أن يكون ذلك تحت مظلة القانون ليكونوا عبرة لمن لا يعتبر ويعبث بمقدرات تسعين مليونا استطاعوا أن يصنعوا ثورة نتيه على العالم فخرا بها واعتزازا لتنهى حكما عسكريا طال أكثر من نصف قرن جاثما على صدور المصريين.. وقد جاءت قرارات الرئيس محمد مرسى الأخيرة لتؤكد للقاصى والدانى أننا اليوم بصدد بداية صحيحة لدولة مدنية لا تضيع فيها الحقوق لكل المصريين وفى نفس الوقت لانتهاون فى تأدية كل ما علينا من واجبات حيال وطن عظيم يستحق منا عن جدارة أن يستعيد دوره الريادى على مستوى العالم تواصلا مع ما أرساه من حضارات عظيمة خدمة للإنسانية جمعاء.