إذا كنا احترمنا القواعد الديمقراطية واحتكمنا فى الانتخابات الرئاسية إلى نتائج «صندوق الانتخابات»، فمن الأولى أن نحترم القانون.. وعندما نحتكم إلى القضاء.. علينا تنفيذ أحكامه، وإذا كانت السياسة تعتمد على «الممكن»، حيث يمكن أن تبدل الآراء وتتغير المواقف.. من خلال «التفاوض» أو التوافق فالأحكام القضائية غير ذلك.. حيث إنها «عين الحقيقة» مادامت واجبة التنفيذ.. وإلا كان من يمتنع عن ذلك مرتكبا لجريمة معاقب عليها قانونا.. ومرة أخرى.. السياسة تتميز بالمرونة.. وتحتمل الجدل.. والخلاف والاتفاق. أما الأحكام القضائية فواجبة الاحترام والتنفيذ. أقول ذلك بمناسبة استمرارنا فى ممارسة «الهواية» المصرية الغريبة.. وهى افتعال المشاكل. ثم إجهاد أنفسنا فى البحث لها عن حلول.. والغريب أن تعود «ريمة إلى عادتها القديمة» بعد ثورة يناير والتى رفعنا فيها شعار الحرية.. والعدالة.. ودولة القانون. وإذا كان الأقدمون قالوا: إذا دخلت السياسة من الشباك.. خرجت العدالة من الباب.. ومن ثم سوف أتناول عددا من القضايا محل الجدل من الناحية القانونية البحتة.. وبعيدا عن أهواء السياسة وأغراضها.. ولنبدأ بمعتصمى ميدان التحرير وما يطالبون به من إلغاء الضبطية القضائية لرجال القوات المسلحة.. وإلغاء الإعلان الدستورى المكمل وعودة مجلس الشعب.. أضف إليهم ما أقامه البعض من دعاوى قضائية أمام القضاء الإدارى لحل الجمعية التأسيسية للدستور. أولا: يجب أن يفهم الجميع أننا وبعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية.. أصبح لدينا رئيس منتخب بإرادة شعبية.. وأننا انتقلنا من مرحلة الشرعية الثورية إلى مرحلة الشرعية الدستورية.. حيث أقسم الرئيس على احترام الدستور والقانون.. ومن ثم سوف يسهر على تنفيذ ذلك عمليا ومن خلال مؤسسات الدولة.. وهو ما يعنى أنه يجب أن يتوقف «الميدان» عن إدارة الدولة.. أو تحديد أولوياتها وتوجهاتها خاصة أن الموجودين بالميدان لا يتعدون المئات.. وأغلبهم من تيار سياسى معين. فإذا كان التظاهر والاحتجاج السلمى حقا يكفله القانون وتتطلبه التكتيكات السياسية.. فهذا الحق مشروط بملاءمة الظروف وتوافر السببية.. وإلا فقد مبرره وجدواه.. وأصبح الممارسون له.. كالذين يناضلون بغير قضية.. ويقاتلون فى غير معركة!. فقد أسقط حكم القضاء الإدارى صباح الثلاثاء الماضى المطلب الأول.. وهو وقف الضبطية القضائية لبعض أفراد القوات المسلحة من الشرطة العسكرية والمخابرات الحربية، مع ملاحظة أنه عندما أصدر وزير العدل هذا القرار الملغى كان يستهدف به الحفاظ على الأمن والسلم فى المجتمع من احتمالات حدوث وقائع عنف وشغب بعد إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية.. أى أنه كان «إجراء وقائيا»، وعندما رأت المحكمة أنه لم تعد هناك ضرورة لذلك فقضت بوقف القرار، وإذا كان البعض تضرر من ذلك واحتكم للقضاء.. فعلينا احترام ما قضى به الأخير. ذات الأمر أيضا بالنسبة لمجلس الشعب.. فإذا كان البعض تضرر من قانون الانتخابات البرلمانية واحتكم للقضاء.. الذى قضى بعدم دستورية القانون ومن ثم بطلان الانتخابات.. فعلينا أيضا احترام ما قضى به. وإذا كان البعض يجادل فى هذا الموضوع بأنه كان على المحكمة الدستورية أن تحيل الحكم إلى القضاء الإدارى المرفوع أمامه الدعوى ابتداء.. ليقضى بالبطلان من عدمه أو أن من أقام الدعوى طالب ببطلان الثلث الفردى فقط، ولكن الدستورية قضت ببطلان المجلس بالكامل.. وأوردت ذلك فى الأسباب.. فهذا الجدل لا محل له من الإعراب ولا سند له من القانون، لأنه أولا.. أن المحكمة الدستورية لم تكن تنظر فى دعوى «تنازع اختصاص» حتى تحيل الدعوى مرة أخرى للمحكمة المختصة لتقضى فيها بما تراه.. وإنما كانت تنظر فى مدى دستورية نص قانونى من عدمه.. ونظرا لأنها هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها، وتختص- طبقا للإعلان الدستورى مادة 49- دون غيرها بالرقابة على دستورية القوانين واللوائح وتتولى تفسير النصوص التشريعية، فأحكامها تخاطب كافة سلطات الدولة.. أى واجبة النفاذ دون الحاجة لأى إجراء آخر.. فأحكامها تتمتع بما يسمى ب «الحجية المطلقة» فى مواجهة الجميع.. أفرادا ومؤسسات. والمعنى أن الدعوى التى كانت متاحة أمام القضاء الإدارى ببطلان الانتخابات أصبحت كأن لم تكن.. أى سقطت من تلقاء نفسها بصدور حكم الدستورية. وأيضا ونظرا للحجية المطلقة لأحكام الدستورية.. والتى لا تتطلب أى إجراء آخر لتنفيذها.. فلم يكن هناك مجال لرئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يصدر قرارا بحل مجلس الشعب.. حيث خلا الإعلان الدستورى من حقه فى ذلك.. وإنما توصيف ما فعله.. هو «إخطار» أمانة المجلس بالحكم فقط. ومع احترامى لحق الجميع فى اللجوء إلى القضاء.. إلا أننى لم أفهم لماذا أقام البعض دعوى ببطلان قرار المشير بحل المجلس؟.. فليس من حقه أصلا أن يصدر هذا القرار.. وإنما كان عليه كرئيس للسلطة التنفيذية- وقتها- أن يخطر المجلس بالحكم.. وهو إجراء يتطلبه القانون.. للعلم بالحكم.. أما عن الجدل حول هل نأخذ بمنطوق الحكم فقط أو بالمنطوق والأسباب؟.. فالكل يعلم أن القضاء هو الجهة الوحيدة الملزمة بإصدار قرارات مسببة.. فالأحكام القضائية عبارة عن قرار وأسباب.. أى منطوق.. وحيثيات. وبمعنى آخر.. فالمحكمة ملزمة بتوضيح لماذا قضت- فى الأحكام الجنائية- بالبراءة أو الإدانة.. وكذلك فى الأحكام المدنية بالتعويض أو الغرامة.. لأن الأسباب هى الوسيلة الوحيدة لإقناع أطراف النزاع بسلامة الحكم وأن القاضى لم يحكم عن هوى أو غرض.. فضلا عن أن بعض الأحكام يجوز فيها الطعن بالاستئناف أو النقض.. ومن ثم على المحكمة الاستئنافية أو النقض أن تدرس الحيثيات.. لترى مدى صحة تطبيق النصوص القانونية الواجبة على الدعوى المعروضة من عدمها.. بل كثيرا ما يكون الطعن على الأحكام وخاصة فى مرحلة النقض بسبب ما يسمى فقها «فساد فى الاستدلال وقصور فى الأسباب».. أى أن المحكمة لم تتوصل إلى التوصيف الصحيح للوقائع محل الدعوى.. ولم تشرح بشكل كاف لماذا أصدرت الحكم بهذا المنطوق الصادر به.. وكل ذلك لا يرد إلا فى حيثيات الحكم.. والمعنى أنه لا يمكن فصل المنطوق عن الحيثيات.. فهما «كل لا يتجزأ». هذا عن المحاكم العادية.. ذات الدرجات المختلفة، فما بالنا بالمحكمة العليا التى أناط بها الدستور الرقابة على القوانين وتفسير التشريعات الصادرة عن البرلمان. مع ملاحظة أن الأحكام القضائية لا تلغيها غير أحكام قضائية من درجة أعلى.. وهذه بديهية يعلمها الكافة.. إلا أننى انتظر وغيرى كثيرون ما سوف تنتهى إليه إدارة الفتوى والتشريع بمجلس الدولة والتى لجأ إليها د. سعد الكتاتنى رئيس مجلس الشعب المنحل بطلب تفسير لحكم الدستورية. ??? أما فيما يتعلق بالإعلان الدستورى المكمل.. فهو فى رأيى يخضع لما يسمى ب«مرونة السياسة».. أى قابل للتفاوض حوله سواء لاستمراره أو تعديله أو إلغائه، وهو وإن كان قد صدر من سلطة مختصة- وقت إصداره- وهى المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. وقبل معرفة اسم الرئيس المنتخب، إلا أنه- بخلاف الأحكام- يظل أمرا سياسيا يمكن التعايش معه سواء كنا متفقين أو مختلفين حوله. وأوجه الاختلاف فيه تتلخص فى ثلاث نقاط: الأولى تتعلق بوضع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والثانية بحق التشريع، والثالثة بحق «الفيتو» على بعض ما قد يصدر عن الجمعية التأسيسية الحالية إذا استمرت فى عملها. فالإعلان حافظ على استمرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتشكيله الحالى فيما يتعلق بشئون القوات المسلحة وتعيين قادتها أو إنهاء خدمتهم.. لحين إقرار الدستور الجديد للبلاد. أى أنه قصر سلطة المجلس على القوات المسلحة فقط.. حيث انتهى تفويضها بإدارة شئون البلاد.. بعد إعلان اسم رئيس الجمهورية المنتخب وأدائه لليمين الدستورية.. حيث أصبح هو المسئول عن إدارة شئون الدولة. أما التشريع والذى عاد إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد حكم الدستورية بحل البرلمان.. فالأمر الطبيعى فى حالة غياب البرلمان أن يكون من حق رئيس الجمهورية أن يصدر قرارات لها قوة القوانين (مراسيم) على أن يعرض الأمر على المجلس فى أول اجتماع له ليوافق عليها أو يعدلها أو يلغيها.. ولكن هذا الحق يكون فى ظل ظروف طبيعية.. أى وجود دستور قائم وسار.. مع استمرار مؤسسات الدولة فى عملها.. ما عدا مجلس الشعب الذى قد يكون فى مرحلة الانتخاب أو تم حله بحكم محكمة. وأعتقد أن الأمر مختلف الآن، فنحن فى أعقاب ثورة.. ونحاول إعادة بناء مؤسسات الدولة.. كما أنه مازال من حق رئيس الجمهورية الموافقة على ما يعده المجلس من تشريعات أو رفضها أو طلب تعديلها.. والمواءمة السياسية قد تتطلب ذلك.. حتى يوافق الشعب على الدستور الجديد الذى من المتوقع أن يحدد اختصاصات كل جهة ومؤسسة.. بما فيها المؤسسة العسكرية. كذلك الأمر بالنسبة للجمعية التأسيسية.. التى لا نعلم هل ستستمر فى عملها أو أن يقضى بحلها كسابقتها.. وإذا جاء بأخرى.. وكان قرار تشكيلها من المجلس العسكرى بصفته جهة التشريع، فلا مانع أن يكون هناك «حق الفيتو» لرئيس الجمهورية.. أو رئيس مجلس الوزراء.. أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية.. أو خمس عدد أعضائها.. على ما قد يصدر منها ولا يلقى التوافق العام حوله من كافة أطياف المجتمع.. وقتها سوف يطلب من الجمعية نفسها إعادة النظر فيما أصدرته.. أو نحتكم للدستورية التى يكون رأيها ملزما للجميع.