وكأنهم قد كتب عليهم الشقاء والمعاناة داخل بلدهم وخارجه، فحين تركوا أولادهم وسافروا إلى الطرق بحثا عن لقمة عيش «حلال» لذويهم ذاقوا الأمرين لسنوات، وعندما عادوا فرارا من الموت المحدق بهم، تواصلت فصول مأساتهم على أرض الوطن، وفشلوا لأكثر من عشرين عاما فى صرف حقوقهم التى لا تتجاوز دولارات معدودة هى قيمة ما لديهم من «حوالات صفراء».كشفت «أكتوبر» مأساة أصحاب الحوالات الصفراء التى تجددت مع بدء صرفها مؤخرا، ورصدت معاناتهم ألوان العذاب وهم يفترشون الشوارع والأرصفة أمام البنوك. الحوالة الصفراء.. هى تلك الأموال التى كان يحصل عليها 4 ملايين مصرى كانوا يعملون بالعراق من الحكومة العراقية حوالى 800 دولار فى العام لكل عامل سواء عمل أم لم يعمل. كانت تحول تلك الأموال عن طريق مصرف الرافدين المنتشر فى كل مدن العراق وكان يقوم هذا المصرف بتحويل العملة العراقية إلى الدولار الأمريكى، وكان يقوم البنك بتحرير استمارة موضحا بها اسم الفرع والمصدر للتحويل واسم المحول وبياناته واسم المستفيد وعنوانه داخل مصر وأحيانا كثيرة يكون المحول هو نفسه المستفيد. هذه الاستمارة مكونة من أصل وثمانى صور كربونية. آخر هذه الصور يكون لونها أصفر وهى ما تعرف بالحوالة الصفراء وتكون غالبا غير واضحة ويقوم البنك أيضا بختم هذه المعاملة بجواز سفر المحول وهو الإثبات الثانى الدال على التحويل وغالبا يكون واضحا، لكن بعد عدم توفير التغطية المالية لصرف تلك الحوالات فى عامى 1989 و 1990 وغزو العراق للكويت توقف صرف تلك الحوالات وحان موعد صرفها حاليا بعد مرور 22 سنة. زحام عجيب فى البداية يقول عوف فرغل عبدالعال من جزيرة المعابدة البحرية مركز منفلوط محافظة أسيوط: عملت بالعراق 5 سنوات ولى (7 ورقات) 700 دولار هى قيمة الحوالة الصفراء، وبعد أن قام العراق بغزو الكويت غادر معظم المصريين العراق، وأرسلت لنا الحكومة المصرية أتوبيسات وطائرات حربية لنقلنا ومنذ ذلك اليوم وأنا أنتظر بفارغ الصبر صرف هذه الحوالات وهى الآن مهمة بالنسبة لى، حيث تغير الحال وأصبحت الآن أحتاجها بشدة، لأننى أعمل فلاحا باليومية لا أملك سوى ثمانية قراريط بالكاد يطعمونى أنا وأولادى الثلاثة. وفرحت جدا عندما قررت الحكومة العراقية، أخيرا صرف الحوالات وتركت أولادى وجئت إلى القاهرة محملا بالأحلام والأمانى ووصلت إلى هنا الساعة الثالثة فجرا. لكنى صدمت بما رأيته من ازدحام عجيب أرهقت منه جدا خاصة أمام بنك الرافدين.. بل إننى دخلت فى حالة إغماء من شدة الزدحام. ويقول مجدى خليل موظف بوزارة الصحة: سافرت إلى العراق وعمرى ه2 عاماً، وكنت أعمل فى المعمار وحاولت البحث عن عمل آخر لأننى متعلم، وعشت فى العراق خمس سنوات كانت من أجمل أيام حياتى لأن شعب العراق طيب جدا. وبصراحة شديدة لم أكن أتوقع أبدا صرف قيمة هذه الحوالات بعد مرور كل هذه السنين. ويضيف: الحمد لله أنا الآن موظف بوزارة الصحة ولى مصدر دخل ثابت أعول به أسرتى، ورغم أن قيمة الحوالة بسيطة جدا «200 دولار» فقط فإننى تعبت كثيرا من الزحام الشديد الذى عانيت منه لعدة أيام أمام البنك وانتظرنا بالساعات واضطررت إلى ترك عملى وأشغالى وتعرضنا لمعاملات غير آدمية من موظفى البنوك التى ذهبنا إليها وبالأخص بنك الرافدين. أما سعد صابر حسن فيقول: جئت من المنيا لأبحث عن مكان صرف حوالتى الصفراء البالغة «300 دولار» وذهبت إلى بنك الرافدين وهناك وجدت الآلاف من المواطنين والذين جاءوا من كل صوب وحدب، لكن حولونى إلى بنك الإسكندرية وحضرت إلى البنك مرات ومرات ولم أستطع دخوله وافترشت الأرصفة ونمت بشوارع القاهرة وذقت ألوانا شتى من العذاب وكأنه مكتوب علينا العذاب بالغربة وبمصر. بقرة بفلوس الحوالة والتقينا فلاحا بسيطا من إحدى قرى الدلتا يقول: اضطررت إلى السفر للعراق وعملت هناك بالخرسانة والمعمار ورجعت قبل وقوع الحرب مباشرة. أما الزحام الذى نعانيه وسوء إدارة الأزمة وعدم التنظيم الجيد فى الصرف ومعاملة البنوك السيئة لنا عذبتنا كثيرا، ولو كان هذا الأمر بالعراق مثلا لما وجدت هذا الزحام مطلقا وعندما كنا هناك لم نلحظ مثل ذلك رغم عدد المصريين الكبير وقتها هناك. ويضيف الحاج كميل: أنا فلاح بسيط أعمل باليومية بالفأس، وحاولت السفر إلى السعودية بعد عودتى من العراق لكن فشلت تماما لعدم قدرتى على توفير ثمن العقد أو حتى جواز السفر، لكنى الآن سوف أشترى بقرة بفلوس الحوالة، رغم أنها لا تزيد على 3 آلاف جنيه لأنه كان لدى بقرة وماتت. قليل من الصبر من جانبه، يقول هانى صلاح الدين مدير فرع البنك العربى الأفريقى بالقاهرة: بدأ الزحام على البنك منذ شهر تقريبا لأننى استقبل مواطنى محافظات كفر الشيخ والشرقية والدقهلية، لأن فروع البنك قليلة. لذلك واجهنا زحاما شديدا فى أول أيام الصرف وقمت بتخصيص شباكين الأول لكبار السن والثانى للسيدات وآخر عادى وقمت بتخصيص محام من الشئون القانونية لبحث الحالات. وما يعانيه الناس من زحام ليست البنوك مسئولة عنه بشكل رئيسى لأن الأعداد كبيرة جدا، فضلا عن أنهم يستخدمون العنف أحيانا ضد الموظفين الذين يعملون من الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة الحادية عشرة مساء حتى مرضوا. ويضيف صلاح الدين: رغم أن تعليمات البنك المركزى تؤكد عدم إجبار البنوك على فتح أبوابها أمام أصحاب الحوالات الصفراء إلا من الساعة الرابعة عصرا فإننا نقوم بصرف الحوالات من الساعة الثامنة صباحا حتى آخر الليل، ومع ذلك فإن الصبر غير موجود من قبل بعض أصحاب الحوالات الذين يتغير شعورهم بمجرد الصرف ويتحول السخط علينا إلى رضا تام، وما نطلبه فقط الصبر قليلا لأننا نبذل كل ما فى وسعنا لإرضاء هؤلاء وأعلم علم اليقين أن بهم مواطنين فى أمس الحاجة إلى جنيه واحد، لذلك نقوم بالتسهيل عليهم من خلال الصرف بأكثر من وسيلة، الحوالة الصفراء نفسها وإن لم تكن واضحة يكون من خلال جواز السفر الذى غالبا يكون واضحا أو من خلال رقم الحوالة أو العنوان.