أغرب مثال عن التوافق المجتمعى على احترام هيبة الدولة وسيادتها قرأته منذ أيام فى كتاب لعالم السياسة البريطانى الشهير هارولد جوزيف لاسكى.. يقول لاسكى: إن مشهد اللص الذى يسوقه شرطى للسجن هو تجسيد حى للتوافق المجتمعى على احترام هيبة الدولة.. فامتثال اللص يعنى ببساطة أنه يعلم يقيناً أن هناك كياناً اسمه الدولة فوق رأس الجميع، وبالرغم من أنه لص، إلا أنه يحرص على هيبتها ويمتثل لقوانينها ويحترمها فى قرارة نفسه..! و الكتاب يشرح بإسهاب دور الدولة، والفارق بينها وبين الحكومة التى هى وكيل الدولة فى تطبيق القوانين والنظم والأعراف.. ولا أريد بالطبع أن أتعمق كثيراً فى مفهوم الدولة الذى هو فى النهاية نتيجة توافق مجتمعى، لكننى أسوق هذا المثال كمقدمة للحديث عن الأوضاع والأحداث المؤسفة التى تشهدها الساحة السياسية الآن؛ حيث يحاول البعض اغتصاب سلطة الدولة والنيل من هيبتها والعودة بنا إلى شريعة الغاب، وتغييب «قوة القانون» لصالح «قانون القوة»، وهو ما يمثل ردة عن كل المفاهيم والأعراف التى نشأ عليها المجتمع وعاش فى ظلها..! فبعض المرشحين المحتملين للرئاسة أو على الأدق المستبعدين انتشوا بخمر القوة، والتفاف الأنصار والأتباع حولهم، ونسوا أو تناسوا أنهم فىدولة لها نظامها وقوانينها التى يجب أن ينصاع لها الجميع.. الكبير قبل الصغير، وأخذوا يهددون ويتوعدون بإحراق الدنيا، والإتيان على الأخضر واليابس فى هذا البلد لمجرد أنه تم استبعادهم من سباق رئاسة الجمهورية لسبب أو لآخر ووفقاً لقواعد كانوا هم أول من تحمسوا لها وأيدوها..! وتعالوا معاً نتخيل، ولو من باب الرياضة الذهنية الخيالية، التى نتمنى من الله ألا تتحقق على أرض الواقع، أن كل حزب أو جماعة قررت أن تغتصب سلطات الدولة، وتطبق القوانين والتشريعات واللوائح بنفسها وعلى طريقتها وحسب هواها اعتماداً على ما لديها من أنصار وحواريين.. بالتأكيد سنرى العجب العجاب.. وسنشهد بأم أعيننا تفتت دولة مصر القوية الفتية التى كنا نباهى بها الأمم منذ فجر التاريخ، وستحل محلها دويلات أبوإسماعيل والشاطر ومنصور، وكل دويلة حرة مستقلة بمليشياتها وقوانينها وأعرافها التى تطبقها على هواها، وسيتحول المصريون الحقيقيون إلى هنود حمر عليهم أن يحصلوا على تأشيرة دخول إذا ما أرادوا الانتقال من مدينة نصر إلى مصر الجديدة، أو من الهرم إلى فيصل أو الجيزة..!! إن المشهد الراهن على الساحة السياسية فى مصر لا يسر حبيباً لكنه قد يسر عدواً، فهو نوع من الاستعراض البغيض للقوة من بعض الأفراد والجماعات والتى من المؤسف أن أقول إنها إسلامية أو تدعى أنها إسلامية..! فالمناصب فى الإسلام لا تُطلب ولا يُسعى إليها.. فحسبما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تسأل الإمارة.. فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها.. وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها».. هذا ما قاله الرسول صلوات ربى وسلامه عليه.. لكننا عشنا وشفنا الإخوان يتقاتلون على الكرسى وكلهم طالبو سلطة.. وفى سبيلها يكذبون ويزورون ويوزعون الاتهامات يميناً ويساراً على الجميع بالخيانة والعمالة وكأنهم هم وحدهم «الوكيل الحصرى» للشرف والأمانة والوطنية والانتماء.. إننى أناشد العقلاء والشيوخ المحترمين من السلفيين والإخوان أن يوقفوا هذه المهزلة التى تحدث الآن فى الشارع المصرى من بعض المنتسبين إليهم، والتى تمثل طعنة فى مقتل للمشروع الإسلامى كله، والذى لن تقوم لأنصاره قائمة بعد الآن. إننى أقول لكل هؤلاء: أى دولة تريدون إذا كنتم تنتهكون هيبة الدولة وتغتصبون سلطتها جهاراً نهاراً أمام العالم كله؟! أى دولة تريدون وأنتم تتعاملون وتعتقدون فى قرارة أنفسكم، ومعكم أنصاركم وحوارييكم، أنكم فوق الدولة وأكبر منها؟! أى دولة تريدون وأنتم لا ترون إلا أنفسكم وحدكم، دون أى اعتبار للآخر؟! أى دولة تريدون وأنتم تهددون البلاد والعباد إذا لم تصلوا لسدة الحكم؟! وأى حكم هذا الذى يأتى على أنقاض وطن وأشلاء مواطنيه.. هل تريدون أن «تخربوها وتقعدوا على تلها»..؟! إننى أتمنى أن يعى عقلاء هذا البلد خاصة من التيار الدينى خطورة المرحلة الراهنة، وخطورة لعب بعض المنتمين لهذا التيار بالنار والتى من المؤكد أنها ستحرق أصابعهم قبل أى أحد آخر.. ووقتها سيندمون وقت لا ينفع أى ندم..! ألا قد بلغت اللهم فاشهد..!