إنه فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر.. كشفت الأحداث والأيام أن هذا الرجل له من اسمه نصيب.. لقد أثبت الشيخ الإمام أنه يتمتع بمصرية عريقة.. ووطنية صادقة.. وأنه يعلى مصالح البلاد والعباد على أية مصالح أخرى.. على خلاف «البعض» ممن يملأون الساحة الآن ضجة وضجيجا وهُم لا هَم لهم سوى الاستمرار فى «الكادر الإعلامى» لعل وعسى تقذف بهم الأحداث إلى منصب سياسى أو موضع قدم فى الشارع السياسى. لقد بدا «الشيخ» وكأنه هبة من السماء ساقها الله إلى مصر المحروسة لتخرجها من أزمتها المؤقتة من خلال جهده المتواصل لجمع الشمل بين الأطراف المختلفة فى المجتمع.. للاتفاق على «كلمة سواء» ترضى الله والوطن.. والمواطنين. وأنى أعترف الآن أننى كنت معارضا للظهور المكثف والمتكرر لمشيخة الأزهر فى وسائل الإعلام.. وكنت أتساءل ماذا يريد الشيخ.. أو المؤسسة؟.. إننا نحترم الأزهر ونبجل الشيخ والمشيخة.. فلماذا هذا الإلحاح على «اللعب» فى السياسة مع أن ملعب الأخيرة لا يتفق مع الوقار والاحترام الذى يجب أن يتسم به الأزهر وأن يحظى به من جميع مريديه.. وهم أبناء الشعب المصرى وكافة شعوب الأمة الإسلامية فى ربوع العالم؟ ولكن بعد أن حكمت عقلى وتابعت ما يقوم به الشيخ ومعاونوه بموضوعية ومن غير موقف مسبق.. أنه لابد فى فترات القلق وغياب البوصلة المحددة للاتجاه الصحيح أن يخرج من بين الناس أو من المجتمع شخص أو مؤسسة تحتكم للعقل وتعيد توجيه دفة الحراك السياسى إلى الوجه الصحيح وبما يحقق ما نتمناه جميعا من سلامة البلاد وأمن الوطن والمواطنين.. وقد كان هذا الدور «ينتظر» الشيخ الإمام.. الرجل الطيب.. ومؤسسة الأزهر الشريف.. حارس الإسلام السنى الوسطى.. والمرجعية التى لا خلاف عليها والأمين على الدعوة فى كل أنحاء الأرض. لقد بدأ الشيخ الطيب نشاطه بسلسلة بيانات تدعو إلى التهدئة وعدم التخريب والحفاظ على الممتلكات العامة واللجوء إلى الحوار البناء واحترام الرأى الآخر، ثم عندما ازدادت الأمور تعقيدا وبدا أن البلاد على وشك انقسام حاد فيما يتعلق بهوية الدولة ونظام الحكم فى البلاد، وانتشرت الوثائق الدستورية وتعددت وظهرت الشعارات المختلفة ما بين من يريدونها «إسلامية» وآخرين يفضلونها «مدنية».. سارع الرجل بدعوة عقلاء الأمة وخبرائها من السياسيين والقانونيين للاجتماع والتشاور من أجل إخراج «وثيقة» تتضمن المبادئ الأساسية لنظام الحكم فى المرحلة المقبلة وهوية الدولة المصرية وتحافظ على الحقوق والحريات الأساسية.. وأن تحظى تلك الوثيقة بالتوافق العام فى المجتمع بكل طوائفه وأحزابه وتياراته السياسية المختلفة، وهو ما تحقق بالفعل، حيث صدرت «وثيقة الأزهر» تؤكد على الهوية المدنية للدولة مع الحفاظ على المرجعية الإسلامية، وهو ما تضمنه الدستور الملغى فى مادته الثانية، حيث نصت على ضرورة دعم الدولة الوطنية «المدنية» الدستورية الديمقراطية وضرورة اعتماد النظام الديمقراطى القائم على الانتخاب الحر المباشر الذى هو الصيغة لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، كما نصت على الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية فى الفكر والرأى والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار «المواطنة» مناط المسئولية فى المجتمع، بمعنى أن الكل سواء أمام القانون..مع عدم التفرقة فى الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين.. وهو ما يعرف بالمبادئ الأساسية لأى نظام حكم ديمقراطى، وهى التى تضمنتها الدساتير المصرية السابقة.. والمعنى أن الوثيقة لم تدع لأحد مجالا للاختلاف معها، ومن ثم حظيت على التوافق العام من جميع أطراف المجتمع.. وكانت بمثابة إلقاء ماء بارد على نار مشتعلة.. فحولتها إلى رماد تنثره الرياح! *** ولم يكن ذلك فقط ما قام به الشيخ الجليل.. وإنما سبق ذلك الدعوة إلى ما سمى «بيت العائلة»، فالرجل من أصول صعيدية ومن الأقصر تحديدا.. وهو زعيم عشيرة أبا عن جد.. ويعلم معنى التراضى وحقن الدماء فى جلسات صلح يرتضى محكموها الأطراف المتنازعة.. ونظرا لتكرار أحداث الفتنة الطائفية فى الشهور السابقة دعا الإمام لتشكيل هذا المجلس ليكون بمثابة بيت العائلة لوأد تلك المحاولات والبحث عن أسبابها لتلافى تكرارها مستقبلا.. وهو ما نجح فيه إلى حد كبير. بعد أن حظيت تلك المبادرة بموافقة ومباركة الشعب المصرى الذى يرفض مثل تلك الأحداث ويحرص على تماسك النسيج الاجتماعى القائم على التعايش السلمى والتاريخ المشترك لجميع أبنائه وأيا كانت هويتهم السياسية أو معتقداتهم الدينية.. فالعبرة دائما بحسن الجوار والمعاملة.. فالدين لله والوطن للجميع. *** وعندما عادت أحداث العنف للظهور مرة أخرى وتمثلت فى مواجهات متكررة بين المتظاهرين وقوات الجيش والشرطة.. وأسفرت عن العديد من الجرحى والقتلى فى أحداث شارع محمد محمود ومجلس الوزراء، سارع الرجل بإصدار بيان واضح وصريح لرفضه لما يحدث واستنكاره ودعا للحكمة واحترام حق التظاهر والتعامل القانونى مع الأحداث.. بل بعث بمندوبين عنه من معاونيه للقاء الثوار فى ميدان التحرير للحوار معهم والتعرف على طلباتهم فى محاولة للوساطة مع المجلس العسكرى لتحقيق ما يمكن تحقيقه منها. ثم كان المنظر المهيب عندما عرضت شاشات التليفزيون لحظة دخول الشيخ الإمام قاعة الاجتماعات بالمشيخة وعلى يمينه رئيس مجلس الوزراء د.كمال الجنزورى وقداسة البابا شنودة ومن خلفهم جمع غفير من قادة العمل العام والسياسى فى مصر.. سواء كانوا من قادة الأحزاب أو المرشحين المحتملين للرئاسة، وكذلك بعض الشخصيات العامة التى تحظى باحترام الجميع. لقد شارك فى الاجتماع والذى أطلق عليه «اللقاء الوطنى» أكثر من 60 شخصية سياسية ودينية وحزبية.. والذى استهدف تجميع الرؤى الوطنية حول أهداف ثورة يناير والحفاظ على روحها مستمرة من أجل استكمال تحقيق أهدافها. وقد أسفر اللقاء عن بيان مشترك تضمن حوالى 12 بندا منها الحفاظ على روح ميدان التحرير الذى جمع الأمة على الأهداف المشتركة مع التعهد باستكمال أهداف الثورة، وسرعة الانتهاء من المحاكمات الجارية لأركان النظام السابق، وبما لا يخل بحقوق المتهمين فى الحصول على محاكمات قانونية عادلة، علاوة على استكمال الوفاء بحقوق أسر الشهداء والمصابين فى العلاج والتعويض والعمل والرعاية الاجتماعية الشاملة. كما شدد البيان على حتمية الاستمرار فى البناء الديمقراطى لمؤسسات الدولة والالتزام بما أسفرت عنه الانتخابات من نتائج، والتعاون بين شباب الثورة وممثلى الشعب من أعضاء البرلمان الجديد فى بناء مصر المستقبل تحت مظلة الديمقراطية وعلى أساس من الشرعية البرلمانية و التوافق الوطنى، دون إقصاء أو انحياز وتحقيق العدالة الاجتماعية لجميع أبناء المجتمع. *** هذا فيما يتعلق بالشأن العام.. أما فيما يتعلق بالشأن الخاص بالشيخ والمشيخة، فقد دعا الرجل لإعداد قانون جديد للأزهر لتحريره من القيود الحكومية، على أن يكون أهم ما يضمنه مشروع القانون الجديد هو العودة لاختيار شيخ الأزهر بالانتخاب من بين أعضاء هيئة كبار العلماء.. وهو المشروع الذى وافقت عليه الحكومة بالفعل فى اجتماعها الأخير تمهيدا لعرضه على المجلس العسكرى، ومن ثم على البرلمان الجديد فى جلساته الأولى. لقد كان الأزهر «منارة» الإسلام، وقائد الحركة الوطنية فى مواجهة المستعمر الأجنبى على مدى التاريخ المصرى القديم والحديث.. ويتذكر المصريون جميعا كيف وقف الأزهر وعلماؤه فى وجه الحملة الفرنسية.. حتى وطئت سنابك خيوله قداسة مسجده الشريف ونكلت قياداتها بعلمائه الأجلاء. وكذلك لم ينس المصريون.. كيف ولماذا صعد الرئيس الراحل عبد الناصر فى حرب 56 منبر الأزهر يخطب فى الأمة بأننا «سنحارب» وسنصد العدوان الثلاثى الغاشم ونجعله يحمل عصاه ويرحل عن البلاد وهو ما تحقق بالفعل لاحقا. نعم نحتاج لإعادة دور الأزهر فى وسطيته والحارس على المذهب السنى والهوى الشيعى.. الحريص على رعاية الحوار مع ممثلى الأديان السماوية الثلاث.. خاصة فى ظل الظهور المفاجئ للتيارات الإسلامية المتشددة.. خاصة الراغب منها فى إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. *** تبقى الإشارة إلى أن الشيخ الطيب تدرج فى المناصب الدينية الرئيسية الثلاث، فقد كان رئيسا لجامعة الأزهر.. ثم مفتيا للديار المصرية.. وأخيرا شيخا جليلا وإماما أكبر للجامع الأزهر، كما تجدر الإشارة إلى مبادرة الشيخ الجليل بالتنازل عن جميع مستحقاته المالية من منصبه الجديد.. بل تحريره شيكا بكافة المبالغ التى تسلمها من قبل عن عمله الحالى وتسليمه لوزير المالية السابق دعما متواضعا للموازنة العامة للدولة. فتحية لهذا الرجل.. هذا الشيخ الطيب.. الإمام الأكبر.. شيخ الجامع الأزهر.