لأن الكلمة أمانة، ولأنه ليس من رأى كمن سمع لم تعتمد «أكتوبر» فى تسجيلها لأحداث التحرير على ما تبثه الفضائيات أو تذيعه وكالات الأنباء أو ما تنشره الصحف، بل قررت النزول إلى موقع الحدث، لترى وتسمع وتشاهد وتسجل بالكاميرا والعين المجردة ما رأته لحظة بلحظة، بما تقتضيه الأمانة المهنية، وإيماناً بحق القارئ فى المعرفة، مع الاعتبار أن مصلحة مصر فوق الجميع. ولهذا فقد تبين من خلال الرصد والمتابعة أن تفاقم الأحداث بدأ مع نهاية مليونية المطلب الواحد التى دعا إليها الإخوان والسلفيون والجماعات الإسلامية والتى قال عنها المفكر الكبير إبراهيم الزينى فى اتصال تليفونى بأنها لم يكن لها محل من الإعراب، وأنها السبب فيما آلت إليه الأمور، وأنها كانت عبارة عن استعراض للقوة.. ليس إلا.. خاصة أن هذا التيار يعلم جيدا الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية التى تمر بها البلاد، خاصة أن السلمى قال: إن الوثيقة التى عرضها على القوى السياسية وثيقة استرشادية كغيرها من الوثائق التى طرحتها الأحزاب السياسية من قبل. بداية المأساة! فى يوم السبت 20 نوفمبر اختلط الحابل بالنابل، وتضاعفت أعداد الثوار، ودخل أصحاب الأهواء والأمراض أرض الميدان.. تجمع البلطجية وأرباب السوابق.. قرروا الاصطدام بالشرطة والجيش.. تحركوا فرادى وجماعات حاملين حواجز ومصدات لتعطيل حركة المرور فى شوارع قصر العينى ومحمد محمود وقصر النيل والشيخ ريحان، وقامت مجموعة أخرى بنصب خيمة بوسط الميدان، وكتبوا عليها أسر شهداء الثورة، فتجمع حولهم العشرات والمئات، فى حين تبرأت المهندسة بنسية طلعت عضو مجلس إدارة صندوق شهداء الثورة وأكدت أن تلك الخيمة لم تكن لها علاقة بالمصابين، وأنه تم نصبها للتجمهر والتظاهر، وأضافت أن خيمة أسر الشهداء الحقيقية كانت أمام مجمع التحرير.. وكان يتم التفاوض معهم لفض الاعتصام واستكمال الأوراق لصرف التعويضات والمستحقات. وفى عصر نفس اليوم اختلط أعضاء تلك الخيمة مع المعتصمين والثوار، وتاهت معالم الحركات الثورية مع القوى الشبابية والتيارات السياسية.. وكان أخطر ما فى الأمر صيحات التحريض ضد الشرطة والمجلس العسكرى، حيث ترددت فى الميدان أكاذيب وأقاويل لا يمكن أن يتفوه بها مواطن مصرى شريف، حيث اتهموا الجهات المعنية بالتباطؤ والتواطؤ والتخوين، والعمالة لإسرائيل وأمريكا والدعوى بأن أحداث التحرير من تأليف وإخراج المجلس العسكرى لتأجيل الانتخابات بغرض التشبث بالحكم، وهو ما دحضه خطاب المشير محمد حسين طنطاوى بتسليم الدولة لرئيس مدنى منتخب فى منتصف 2012، وإن كان الخطاب قد تأخر نسبياً على حد تعبير د. رفعت سيد أحمد رئيس مركز يافا للدراسات الإسرائيلية. وقد قامت مجموعات التحريض فى الميدان بوضع المتاريس والمصدات فى الشوارع الرئيسية والجانبية، وتحريك المتظاهرين قبالة الجامعة الأمريكية وشوارع الشيخ ريحان ومحمد محمود وقصر العينى، وهو ما دفع قوات الأمن إلى التحرك فى تشكيلات لتكون بمثابة دروع بشرية لسد الطرق على المتظاهرين لمنع وصولهم إلى وزارة الداخلية، وعندما فشلت مجموعات التحريض فى الوصول إلى هدفها، والصدام مع الأمن أغلقت الميدان وقذفت قوات الشرطة بالحجارة، عندها تحركت قوات الأمن بكل ما أوتيت من قوة، وقامت بضرب المتظاهرين السلميين والمسلحين بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع فى محاولة منها لفض الاعتصام بالقوة، وهو ما دفع الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل ومعه د. سليم العوا، ومن بعدهما د. أيمن نور ود. البلتاجى إلى زيارة الميدان لعمل دعاية انتخابية بحجة مساندة الثوار، إلا أنه - كما يقال - تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، حيث خرجوا جميعاً من الميدان تحت ضغط حركات 6 أبريل وكفاية والجبهة الوطنية للتغيير وحملة دعم البرادعى، وتيار الاستقلال الوطنى. ووسط هذا الجو المشحون بالغضب والثورة تكرر سيناريو الكر والفر بين المتظاهرين وقوات الأمن عشرات المرات، حيث قذف المتظاهرون قوات الأمن بالحجارة، وتسلقوا أسوار الجامعة الأمريكية، وكسروا زجاج الدور الأول ثم الذى يليه، كما قامت مجموعات من المتظاهرين بالصعود على أسطح العمارات المجاورة لإلقاء زجاجات المولوتوف على قوات الأمن المركزى، وبالطبع لم تقف القوات مكتوفة الأيدى حيث ردت على المتظاهرين بضراوة منقطعة النظير مستخدمة فى ذلك القنابل المسيلة للدموع، وطلقات الخرطوش المطاطية ومن هنا لجأ بعض الثوار إلى أبواب العمارات للاحتماء بها. فيما لجأ البعض الآخر لمسجد عمر مكرم، حينما دعا الشيخ مظهر شاهين قوات الشرطة إلى ضبط النفس وعدم استخدام العنف والقنابل المسيلة للدموع، والرصاص المطاطى ضد المتظاهرين. وفى الوقت الذى سعى فيه الشيخ مظهر شاهين إلى التهدئة، واتفاقه مع قوات الأمن أن من دخل مسجد عمر مكرم فهو آمن دعا الشيخ صفوت حجازى المتظاهرين إلى التجمهر داخل الميدان، فحملوه على الأعناق، وطافوا به فى مسيرة حاشدة بعد أن دعاهم إلى اعتصام مفتوح حتى تحقيق النصر أو الشهادة، مما أدى إلى الصدام مع قوات الأمن مرة ثانية، وارتفاع عدد ضحايا يوم الأحد الدامى إلى 13 شهيداً بينهم ثلاثة مجهولين الهوية، تم تحويلهم إلى مشرحة زينهم، كما جاء فى بيان وزارة الصحة آنذاك.. أما عن أعداد المصابين من يوم الأحد الدامى وحتى كتابة هذه السطور فحدث ولاحرج. وبعد زيادة أعداد القتلى والجرحى أبدى د.محمد البرادعى استعداده إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطنى، تمهيداً لتأسيس مجلس رئاسى، واصفاً أحداث التحرير بأنها مقدمة طبيعية لتفكيك مصر، وانهيار المؤسسة الأمنية والاقتصادية، واصفاً الحكومة والمجلس العسكرى باتهامات من شأنها تكدير العلاقة بين الشعب والمؤسسة العسكرية والوطنية الأولى فى مصر. وعلى نفس الخط خرج بيان حركة 6 أبريل جبهة أحمد ماهر ليؤكد أن الاستخدام المفرط للقوة ضد أسر الشهداء والمتظاهرين السلميين فى ميدان التحرير وشارع محمد محمود هو سبب كل هذه الأحداث، ودعا إلى اعتصام مفتوح فى الميدان وباقى ميادين مصر حتى سقوط حكم العسكر، والقصاص من قتلة الثوار.. فى الوقت الذى أعلن فيه اللواء محسن الفنجرى، عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس مجلس إدارة صندوق شهداء الثورة أن الشارع المصرى ليس ميدان التحرير، أو أن هذا الميدان الذى يتظاهر فيه 200 أو 300 ألف شخص ليس هم الشعب المصرى الذى تجاوز ال 80 مليون نسمة. وأن المجلس العسكرى ملتزم بتسليم السلطة لرئيس مدنى منتخب مؤكداً أن ما يحدث على الساحة الآن ما هو إلا توتر مفتعل لتأجيل الانتخابات، وهدم كيان مؤسسات الدولة. وإذا كانت ميادين أسيوط وقنا والمنصورة، وسيناء قد وقعت بها أحداث مشابهة فإن الحادث الأكبر كان فى محافظة الإسكندرية عندما تجمع عشرات الآلاف أمام المنطقة العسكرية الشمالية للتنديد بما يحدث فى ميدان التحرير وباقى ميادين مصر.. وعندما فشلت هذه الآلاف فى استفزاز قيادة المنطقة أو قوات الحراسة من الشرطة العسكرية والصاعقة توجهت إلى مديرية الأمن فى محاولة مستميتة لاقتحامها كما حدث من محاولات مع وزارة الداخلية بالقاهرة. وتصاعدت وتيرة الأحداث فى الإسكندرية عندما توفى الناشط بهاء السنوسى أحد مؤسسى حزب التيار المصرى أمام مديرية الأمن بعد إصابته بآلة حادة جاءته فى مؤخرة الرأس من الخلف. ومع أن أسرة المتوفى قد اقتنعت تماماً بتقرير الطب الشرعى الذى أكد أن الوفاة جاءت نتيجة ضرب المتوفى بآلة صلبة، وأنه سيتم نقله من مشرحة كوم الدكة إلى مدافن الأسرة مباشرة، إلا أن شباب ائتلافات الثورة وكفاية و6 أبريل والجبهة الوطنية للتغيير وشباب حملة دعم البرادعى والتحالف الاشتراكى حاولوا التشكيك فى الوفاة بادعاء أنها ناتجة عن طلق نارى، وليس بالضرب من الخلف، كما حاولت جماعات التحريض على العنف نقل جثمان الشهيد إلى مسجد القائد إبراهيم، وعمل مسيرة إلى المنطقة الشمالية العسكرية فى محاولة للوقيعة بين الجيش والشعب، إلا أن أسرة المتوفى رفضت أيضاً كل هذه المسيرات والحركات وآثرت أن يخرج جسد الشهيد من كوم الدكة إلى مدافن الأسرة مباشرة، راجين للمتوفى الرحمة ولأسرته الصبر والسلوان. هذا وقد أكد اللواء منصور العيسوى فى بيانات الداخلية المتعددة لاحتواء الأزمة أن قوات الأمن لم تطلق رصاصة واحدة على المتظاهرين، وأنها التزمت بأقصى درجات ضبط النفس، وأنها تدافع عن وزارة الداخلية - التى هى وزارة الشعب بالوسائل القانونية، وبأسلحة فض الشغب المتعارف عليها، وليس بالرصاص الحى كما أعلنت وكالات الأنباء. وعن زيادة أعداد القتلى والمصابين قال بيان الداخلية إن هناك طرفاً ثالثاً يطلق الرصاص الحى على المتظاهرين وقوات الشرطة، حيث تم إلقاء القبض على مثيرى الشغب وحائزى تلك الأسلحة النارية التى استخدموها لإشاعة الفوضى وسقوط مزيد من القتلى. وفى تعقيب على أحداث التحرير أكد د.رفعت سيد أحمد، أن أحداث الميدان كشفت ضعف القوى السياسية فى الشارع، وحقيقة تأثير تلك القوى على الشباب، وألمح صراحة أن النخبة السياسية والثقافية والإعلامية والدينية لم تنجح فى اختيار التحرير، وعلى الشعب المصرى البحث من الآن على اختيار نخبة بعيداً عن تلك القوى التى تحاول تقسيم التورتة أو البحث عن غنائم آنية على جثة الوطن. فيما أشار د. عبد الله سرور عضو حركة 9 مارس وعضو اللجنة القومية للدفاع عن الجامعة إلى وجود مؤامرة يتم تنفيذها حالياً بأيد مصرية، وأخطر ما فى الموضوع أن هناك أحزاباً وتيارات بعينها التحفت بعباءة الإسلام السياسى، ودعت إلى مليونية المطلب الواحد، واعتقدت أن مصر أصبحت صيداً ثميناً، وأنه يمكن الانقضاض عليها فى أية لحظة. وأضاف د. سرور أن التمويل الأجنبى له دور كبير فى إشعال تلك الفتنة مؤكداً أن بعض التيارات المعروفة تحصل على تمويل مباشر لإفساد الحياة السياسية فى مصر ولا تختلف كثيراً عن فلول الحزب الوطنى، مضيفاً أن جنرالات المقاهى، وبعض القوى والأحزاب السياسية تحاول جاهدة فرض الوصاية على الشعب المصرى، بعد أن أوهمت نفسها أنها قد حصلت على توكيل لتنصب نفسها متحدثاً رسمياً باسم 85 مليون مصرى. ودعا د. عبد الله سرور إلى عدم الالتفات إلى دعوات الهدم والتحريض، والنظر إلى بناء ومستقبل مصر.