لا أعرف إلى مدى تغيرت اليوم دمياط التى تربيت فى أحضانها بالنسبة لما كانت عليه عندما تركتها إلى القاهرة، وأنا فى سن الرابعة عشرة، وهى السنوات التى تصورت بعد أن جئت إلى القاهرة وعشت حياتها أننى نسيت دمياط بل لعلى أنكرتها، إذا بى اكتشف أن هذه السنوات الأولى كانت هى الأساس القوى الذى ساعدنى وأنه فعلًا حسب القول القديم كالنقش على الحجر. اكتب اليوم عن صفة أخرى إتسم بها البيت الدمياطى، وهى آداء فروض الدين ببساطة وهدوء والتزام.. فقد كان الغريب أن أحدا فى البيت لم يطلب منى الصلاة أو الصوم عند مجىء شهر رمضان.. فقد وجدت الجميع يصلون فصليت، ووجدتهم جميعًا يصومون فصمت.. وعندما خرجت إلى الشارع فى دمياط فى رمضان وجدت أنه يختلف تمامًا عن الشارع فى الأيام العادية، فالجميع صائمون وحتى لو أراد أحد أن يفطر لم يكن ممكنا أن يفعل ذلك حتى لو كان لديه عذر، فلن يجد محلًا يبيعه ما يأكله أو يشربه.. لا مقهى ولا مطعم ولا محل عصير أو فول أو طعمية يفتح نهار رمضان.. فالصيام جماعى والإلتزام جماعى، ولهذا تعلمت الصوم من الشارع الدمياطى الذى يقوم كل فرد فيه إلى الصلاة بأمر داخلى. أى عمل لاخجل منه ولم يكن الشارع الدمياطى يختلف عن البيت الدمياطى بالنسبة لحب العمل، فلم أعرف واحدًا فى دمياط لا يعمل أو يخجل من عمله أو من تواضع ملابسه أثناء العمل. على العكس كانت قيمة الفرد بعمله لافيما يلبسه، لذلك كان الشاب الدمياطى الذى تراه فى ملابس متواضعة خلال أيام العمل يخرج يوم الجمعة يوم الأجازة مرتديًا ثوبًا نظيفًا يثبت فيه أنه إذا كان اللبس فهو قادر ولكن الأهم هو العمل. كانت شهرة دمياط فى ذلك الوقت تتركز فى صناعتين أساسيتين: الأحذية أولًا والموبيليا ثانيًا.. ولم يكن هناك زقاق أو حارة أو شارع كبير أو صغير ليست فيه ورشة صغيرة لصناعة الأحذية، وكان حجم الورشة يعتمد على عدد «البنوك» الموجودة داخلها لتصنيع الحذاء فهناك ورشة صغيرة بها بنك واحد وأخرى فيها عشرة وعشرين بنكا. و «البنك» فى لغة صناعة الأحذية عبارة عن مائدة مربعة بارتفاع ساقى أربعة عمال يجلسون إلى أربعة كراسى حولها يسندون إليها ظهورهم. وهؤلاء الأربعة يمثلون معًا «خط إنتاج» الحذاء الذى يبدأ بعامل يفرد وش الحذاء الجلد ويشده إلى القالب «كان وش الحذاء يأتى جاهزًا من ورش متخصصة فيها» ليتولى العامل الثانى تثبيت النعل من قطعة جلد مقواة يلصقها بظهر القالب ويقطع بسكين خاصة أطرافها حتى يأخذ شكل القالب ويتركه فى الهواء فترة كافية إلى أن يجف ويتماسك لتأتى مهمة العامل الثالث فى البنك فيقوم بخياطة النعل بالوش يدويًا، وبعد ذلك ينتقل الحذاء إلى العامل الرابع الذى يقوم بوضع اللمسات الأخيرة على الحذاء فى قالبه وتلميعه، وتركه فترة حتى يتماسك تمامًا ويفكه من القالب، وهى كما ترى صورة توضح كيف كان الدمياطة يتعاونون معًا فى تصنيع الحذاء بحب وزهو. الانتقال إلى صناعة الأثاث وقد تميزت صناعة الحذاء الدمياطى بالجودة بسبب الأمانة فى استخدام المواد الجيدة، فقد كان من يغشون يستخدمون طبقات من الكرتون الرخيص بدلًا من الجلد المقوى الذى يستخدمه الدمياطى نعلًا للحذاء، وكان فن الدمياطى فى طريقة الخياطة الجيدة اليدوية الدقيقة للنعل مع «وش» الحذاء، ومن الأسف أن الآله قضت على صناعة الحذاء الدمياطى اليدوى الذى كان يتميز بالمتانة، لكن شطارة الدمايطة عوضت ذلك بالتوسع فى صناعة الموبيليا التى ملأت ورشها شوارع وحوارى دمياط بحيث أصبحت كل دمياط ورشة كبيرة لصناعة الأثاث الذى تم تصديره إلى مختلف دول العالم. وهذه الصناعة هى الأخرى صناعة مشتركة تمثل صورة أخرى من صور التعاون.. فليست هناك ورشة تصنع مثلًا حجرة نوم كاملة، إنما هناك أكثر من ورشة متفرقة كل منها يعمل فى تخصص مختلف يتولى تصنيع مكون من مكونات الحجرة العديدة.. ورشة متخصصة فى صنع وش السرير، وأخرى لظهر السرير وورشة متخصصة فقط فى «رجلين السرير» وأخرى ألواح السرير وورشة تصنع الترابيزات الصغيرة «الكومدينو» التى توضع إلى جوار السرير ونفس الشىء بالنسبة لأجزاء الدولاب والتسريحة وكل غرفة.. وهذا يعنى أن الورش الكبيرة لا تحتكر العمل بل توزعه على أعداد كثيرة من الورش الأخرى الصغيرة مما يمثل صورة أخرى من صور الحياة التعاونية التى يعيشها المجتمع الدمياطى. إختفاء فن الأويمة على أن هناك فنًا إختفى أمام زحف الآله كان يتقنه عدد من الدمايطة وهو فن «الأويمة» أو الزخرفة التى تجدها بالذات فى كراسى الصالون وفى «رجل السرير» أو الخرشوفة، كما يسمونها. كان الفنان الدمياطى يمسك الأزميل ويدقه فى الخشب لينقل الرسم المقدم إليه على الخشب فإذا حفظه قام بعد ذلك بحفره من الذاكرة ببراعة ودقة.. وربما كان سبب تدهور هذا الفن فترة اتجاه دمياط إلى التصدير إلى الاتحاد السوفيتى فى زمن الانغلاق بعد سنة 62، ولما كان الاتحاد السوقيتى لا تهمه الجودة ولا فن السرير أو الدولاب أو الكرسى فقط اتجهت الصناعة الدمياطية إلى الكم بأرخص الأسعار، مما أثر على مستوى الجودة.. ومن حسن الحظ أن ذلك لم يستمر طويلًا وعادت الصناعة تهتم بالجودة، وفاصل ونواصل.