خيط رفيع يربط بين أجهزة المخابرات والإعلام.. بكل أشكاله.. ألا وهو أن الطرفين يقومان بجمع المعلومات بأساليب مختلفة ولأهداف متباينة، ولكن أدوات هذه العملية تبدو مختلفة أيضا من الناحية التكنولوجية والفنية والممارسة العملية. ومعلوم أن «المعلومة» هى محور التقدم وأساسه وبدون الحصول على المعلومات الدقيقة.. فى توقيت مناسب.. لن تستطيع الأجهزة المختلفة اتخاذ القرار الصحيح أيضا. ومن هنا جاء الترابط والتناغم بين الطرفين:وسائل الإعلام وأجهزة الأمن والمخابرات فكلاهما يمثل وسيلة وقناة لتمرير الأخبار أو اختبار ردود الأفعال.. وتجاوز البعض هذا المسألة إلى «العمالة» الفعلية لأجهزة الأمن والمخابرات بشكل غير رسمى.. ويكفى أن تعرف أن هناك إعلاميين - بل رؤساء دول - كانوا ومازالوا يتقاضون رواتب ثابتة ومجزية من أجهزة المخابرات العالمية! وعندما ننظر إلى المشهد الفضائى «المصرى والعربى» نلاحظ أنه تحول إلى ما يشبه «المصاطب الفضائية» فكل صاحب قناة يفتتح «توك شو» ويأتى إليه بنجوم الإعلام والسياسة والفن والرياضة حسب القضايا الرائجة والساخنة. ويبدو أن مقدم «التوك شو» يعزف منفرداً، حيث يستعرض فيه مهاراته الكلامية والإبداعية والحركية.. ومعه «سنّيد» أو «سنيدِّه» لزوم المظهر واستكمال المنظر.. وللتدخل لإراحة عمدة المصطبة الفضائية كى يلتقط أنفاسه عند الضرورة!! بل إن بعض هؤلاء العمد الفضائيين المنفردين بالجلسة لفترة طويلة.. يعرض وجهة نظره الخاصة ورؤاه الفكرية والأيديولوجية.. بل يهاجم معارضيه ولا يتيح لهم فرصة للحوار أو الرد.. عملا بمبدأ الدكتاتورية الفضائية! والأغرب من ذلك أن بعض هؤلاء بدأوا مع الثورة كنجوم معارضين للنظام البائد.. ثم استهوتهم المعارضة التليفزيونية والمكلمة الفضائية اللذيذة والمربحة. ويجب أن نعترف بأن هذه المصاطب الفضائية تحظى بجاذبية هائلة من حيث توقيت المشاهدة الذى يبدأ تقريبا منذ التاسعة أو العاشرة.. مساء.. ويمتد حتى الليل وآخره.. لدرجة أن صاحب إحدى هذه القنوات اعتاد أن يسهر على مقهاه الفضائى لوقت متأخر من الليل.. فالبيت بيته. والقناة قناته.. ولا حسيب ولا رقيب.. بل إن المذيع أو المحاور يدير الجلسة بطريقة تريح صاحب البيت ولا تضايقه.. وتحقق أهدافه وأهواءه. ومع سخونة الأحداث التى تشهدها المنطقة - والعالم أيضا - تتوافر مادة مغرية وملتهبة تستطيع جذب المشاهد الذى يتسلى متنقلاً بالريموت بين المصاطب الفضائية كيف يشاء.. حتى يغلبه النعاس.. فينام صاغرا أو مقهورا!! وفى اليوم التالى تتحول مادة التوك شو إلى محور الحوارات فى العمل والبيت والشارع والأتوبيس.. الخ! ولكن الجانب الأخطر لهذه المصاطب الفضائية هو اصطناع الفتن وإثارة المشاكل.. دون تقدير للمصالح الوطنية العليا ودون الحرص على مستقبل مصر.. بل الأخطر من ذلك تشويه العقول وتخريب الهوية المصرية.. فللأسف الشديد يتسابق هؤلاء النجوم لتحقيق السبق والانفراد الإعلامى.. دون تدقيق فى مصادر المعلومات أو المالتى ميديا.. ودون تقييم دقيق لإثارها وأبعادها على الأمن القومى. لم يعد هناك تقدير ذاتى لتأثير هذه البرامج على المصالح الاستراتيجية العليا للبلاد.. بل إن ما يرد على ذهن المشاركين فى المصطبة الفضائية يذاع فورا وعلى الهواء.. دون ضابط أو رابط أو حسيب أو رقيب! وتتجاوز فى بعض الأحيان إلى المبادئ والأخلاقيات.. فيستظرف المذيع اللميع البديع ويقول نكته خارجة أو قفشة ذات ايحاءات غير لائقة!! وللأسف الشديد أصبح الكثيرون يقبلون هذه التجاوزات حتى أمام أولادهم وأسرهم.. وكأنها تجاوزات معتادة.. ومقبولة.. فقد انقلبت المعايير والقيم.. وما كان مرفوضا ومستهجنا بالأمس.. أصبح واردا اليوم! *** وفتنة الفضائيات لا تقتصر على الجوانب الأخلاقية.. بل تتعداها إلى السياسة والاقتصاد والدين أيضا.. وقد لاحظنا انتشارا هائلا للفضائيات الدينية (إسلامية ومسيحية وسنية وشيعية وصوفية.. الخ).. على كل الأقمار الصناعية، فمن لا يجد فرصة على النايل سات لديه العرب سات أو الهوت بيرد.. وفى النهاية سوف تجد كل القنوات زبائنها وعملاءها فى كافة أنحاء الكرة الأرضية، وقد نشأت عن هذه الحرب الفضائية الدينية مشاكل كثيرة، حيث أثارت النعرات ونكأت الجراح القديمة.. وحدث نوع من الاستقطاب الشديد والحاد.. لدرجة إحداث انقسامات بين أصحاب الدين الواحد الذين ينتمون لمذاهب أو ملل مختلفة! فتنة الفضائيات انعكست على التعامل مع الثورات العربية، فهناك فضائيات معينة اتخذت مواقف مسبقة ومبدئية منذ انطلاق هذه الثورات.. وراحت تثير المشاكل وتركز على دعم أطراف بعينها.. خاصة الأطراف الحاكمة.. ولم تتعامل بموضوعية وحيادية مع مختلف الثورات وهى تكيل بمكاييل عديدة.. بدءا من البحرين ومرروا بسوريا واليمن وانتهاء بليبيا! اختلاف التناول الإعلامى الفضائى ينبع أساسا من ملكية هذه الفضائيات.. فهى تبدو فى ظاهرها مملوكة لأفراد ولكنها فى نهاية المطاف تخدم دولا وسياسات بعينها ولا نتجاوز عندما نقول إن بعضها يتبع أجهزة أمنية ومخابراتية.. ويدور فى فلكها ويأتمر بأمرها! والمسألة لا تقتصر على رأس المال الذى يسعى لتحقيق الأرباح.. بل على توظيف هذا المال لتحقيق سياسات واستراتيجيات محددة.. فهناك مليارديرات ينفقون مئات الملايين - وربما البلايين - من أجل تحقيق الهيمنة الإعلامية على المنطقة العربية.. سواء من خلال احتكار الأحداث الرياضية أو الفنية أو السينمائية.. بل تحولت المنافسة فى هذا المجال بين دول الخليج التى لديها فوائض مالية وتريد أن تتباهى بأنها تمتلك أقوى القنوات التى تستحوذ على أكبر عدد من المشاهدين حتى ولو حققت خسائر بالبلايين! وتكتمل الصورة بالقنوات الأجنبية الناطقة باللغة العربية على أقمارنا الصناعية.. وقد زاد عددها بصورة رهيبة ومريبة.. وتفوق بعضها على قنوات الدول العربية نفسها.. فالكل يريد تلميع صورته وكسب العقول والقلوب فى منطقة تشهد تحولات كبرى وفراغا أكبر.. وسط غياب لأصحاب الديار الحقيقيين. وإذا كان العرب قد غابوا.. أو تغيبوا سنوات طويلة عن ركب التاريخ.. فهل تسهم ثورات المنطقة فى إعادة صياغة هذا الواقع الإعلامى المزرى؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه.