عند القراءة المتأنية للمشهد السياسى الراهن قد يلحظ المرء أن المشهد كله، بأحداثه وشخوصه، أشبه بالفسيفساء.. أحجار صغيرة مختلفة متراصة جنبا إلى جنب. قد يعتقد المرء للوهلة الأولى أنه لا يوجد أى رابط بينها.. لكن كل من يتأمل المشهد بعمق يجد أن هناك إطارا يحكمها كلها.. فمن عبارات الغزل الأمريكى “الفج” لجماعة الإخوان “المحظوظة” إلى “جمعة الصمود” أو “الثورة أولا” مرورا بالاجتماعات المطولة للحكومة وما يتناثر من شائعات عن قرب استقالتها، إلى جانب التطمينات، والإشارات المهمة الصادرة من المجلس العسكرى، وتحديدا من الفريق سامى عنان رئيس أركان القوات المسلحة، والذى نادرا ما يخرج عن صمته الذى يفرضه عليه انضباطه العسكرى.. كل هذه الأحداث والتطورات يربطها رباط مشترك وهو أن كل طرف على الساحة يحاول، فى هذه المرحلة التاريخية الفارقة فى تاريخ مصر، أن يحدد موقفه بوضوح لا يقبل أى لبس، فى ظل حالة الارتباك والالتباس التى نشهدها الآن والتى تجد لها وقوداً مستمراً من الشائعات والأكاذيب التى يعج بها الشارع المصرى الآن..! فليس سراً أن هناك حالة من الترقب المشوب بالقلق تحكم المشهد كله الآن انتظاراً «لحدث كبير» قد يقلب الساحة كلها رأساً على عقب، ولعل ردود الفعل المذعورة «للفرقعات» التى أحدثتها طائرة مقاتلة اخترقت، دون قصد، حاجز الصوت ظهر يوم الأربعاء الماضى خير دليل على ذلك؛ فالناس أخذت تضرب أخماساً فى أسداس حول أسباب هذه «الفرقعات» التى سمعت بوضوح فى المعادى والمهندسين ومنطقة وسط البلد ومدينة نصر.. والغريب أن البورصة تأثرت سلباً بهذه الفرقعات التى لم تستمر إلا لحظات قليلة فقط، وهو ما يعكس حالة الهشاشة التى تعانى منها البورصة، والتى تفتقر لأبسط قواعد التحليل واتجاهات السوق ومؤشراته.. وإذا توقفنا عند أول ملمح من ملامح المشهد السياسى، وهو الغزل الأمريكى لجماعة الإخوان المحظوظة نجد أنه يعكس حالة من الميكافيللية الانتهازية فى السياسة الخارجية الأمريكية.. فالنصيحة الذهبية لميكافيللى فى كتابه «الأمير» هى ألا تقف على الحياد أبداً، بل يجب أن تنحاز للجانب صاحب الفرص الأكبر فى الفوز..!! وهو نفس ما نفذته بحذافيره وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون عندما وجهت رسالة إلى «الإخوان المسلمين» مفادها أن أمريكا على استعداد للحوار معها بصورة مباشرة..! وما يلفت النظر فى هذه الرسالة أنها لم يكن لها ما يبررها لا من حيث الزمان ولا المكان، حيث كانت هيلارى تتحدث فى افتتاح معهد «توم لانتوس» بمبنى البرلمان المجرى فى بودابست. وقد كان من الممكن أن يكون لحديثها مبرر إذا ما كان مثلاً فى مبنى البرلمان المصرى أو فى مبنى أى برلمان عربى.. وهذا الاختيار الغريب للمكان الذى انطلقت منه الدعوة الأمريكية للحوار مع الجماعة المحظوظة، يعنى أن البيت الأبيض كان فى عجلة من أمره، ويريد توصيل الرسالة بأسرع وقت ممكن وفى أقرب فرصة حتى يحظى بشرف الحوار مع المحظوظة قبيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية. فمن الواضح أن أمريكا لديها قناعة تامة بأن الإخوان هم القوة المنظمة الرئيسية فى مصر، وأنهم سيكتسحون الانتخابات البرلمانية.. وقد ينافسون بقوة فى الانتخابات الرئاسية.. وهذه القناعة، بالمناسبة، ليست قناعة الأمريكيين فقط، بل قناعة الكثير من القوى السياسية والمراقبين فى مصر، والذين يرون فى بدء الانتخابات البرلمانية أولاً قبل إعداد الدستور تكريساً للتواجد الإخوانى بقوة على الساحة.. وقد عزز هذه القناعة أن الإخوان يلعبون سياسة بأعلى درجة من الحرفية الآن.. فقد خرج من رحم الإخوان أكثر من حزب سياسى فى الأيام القليلة الماضية، وظهر حتى الآن مرشحان محتملان ينتميان للجماعة، على الأقل، قررا خوض الانتخابات الرئاسية.. ولعل تحركات الإخوان وتكتيكاتهم واستعدادهم المبكر لخوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية خير دليل على قوة تنظيمهم وأنهم لم يضيعوا الوقت سدى فى الاستغراق فى التفاصيل التى شغلت مؤخراً العديد من القوى السياسية الأخرى والأحزاب.. وائتلافات شباب الثورة.. فالإخوان أدركوا تماماً طبيعة وخطورة المرحلة الراهنة والتى تعد بمثابة مرحلة فارقة فى تاريخ مصر، حيث سيتم وضع دستور جديد للبلاد، وسيتم تحديد شكل الحكم وطبيعته وما إذا كان جمهورياً رئاسياً أم برلمانياً.. ولا يمكن أن نقرأ ملامح المشهد السياسى الراهن دون أن نتوقف عند اللقاء «النادر» الذى تم بين رؤساء 15 حزباً والفريق سامى عنان رئيس أركان القوات المسلحة سواء من حيث توقيته أو أهدافه.. فالرجل، بحكم طبيعته العسكرية المنضبطة، قليل الكلام والظهور، لكنه عقد اللقاء فى هذا التوقيت بالذات ليبعث بالعديد من الرسائل المهمة للشعب المصرى كله، بلور من خلالها موقف القوات المسلحة من كل ما يدور على الساحة ورؤيتها للمرحلة القادمة.. فالرجل أعاد التأكيد من جديد، حتى لا ينسى البعض، أن القوات المسلحة ستظل هى الضامن الأساسى لحقوق وحرية الشعب من خلال دولة ديمقراطية حرة ونزيهة تتمتع بالأمن والاستقرار والرفاهية، وأن القوات المسلحة لن تسمح بانتقاص أى حق من حقوق الشعب وكرامته.. كما أكد تطبيق القانون على الجميع بكل قوة وحزم، دون أية إجراءات استثنائية. وأكد الرجل أيضاً التزام القوات المسلحة ب «خريطة طريق» واضحة ومحددة لعبور هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ مصر، تتمثل فى إجراء انتخابات المجالس النيابية، وإعداد دستور جديد وانتخاب رئيس الجمهورية. وقال عنان، بلسان عربى مبين لا يقبل أى تأويل: إن القوات المسلحة لن تكون بديلاً عن الشرعية وإن الشرعية ستكون بإرادة الشعب.. هذا الكلام قد يعتبره البعض تكراراً لما سبق، وأنه قيل من قبل فى العديد من المناسبات، لكننى أراه ضرورياً فى هذا الوقت بالذات الذى كثر فيه الحديث عن دور القوات المسلحة فى إدارة شئون الحكم فى المستقبل، ووضع الجيش فى الدستور الجديد، وهل من المناسب توسيع دوره ومهمته فى المرحلة القادمة بحيث يصبح إلى جانب مهمته الأساسية فى حماية الدولة والحدود، حامياً أيضاً للمبادئ الدستورية..؟! فأهمية ما قاله الفريق عنان تكمن فى أنه وضع العديد من النقاط على الحروف فى قضايا أصبحت الآن هاجساً ومحل جدل النخب والقوى السياسية.. ولا أعتقد أن ما قاله لا يحتاج لأى تفسير.. بل إنه يغلق بالضبة والمفتاح، كما يقولون، باب أى جدل بيزنطى حول دور الجيش فى المرحلة القادمة.. إن هذه الملاحظات مجرد غيض من فيض من قراءتى لما يدور على الساحة السياسية الآن.. وأعتقد أن ما يحدث يحتاج للمزيد من القراءة فى الأسبوع القادم.