شهد الأسبوع الماضى تحركاً مصرياً تركياً مكثفاً تم تتويجه بإعلان أول مجلس استراتيجى بين البلدين.. لأول مرة منذ عقود.. وربما يعيد ذكريات قديمة ومتجددة.. بعضها مر.. وأكثرها حلو ! وأهمية هذا التحرك من حيث التوقيت أنه ضرورة حيوية فى ظل الفوران الذى تشهده المنطقة.. قلب العالم ومحوره وبوصلته أيضاً. وعندما يتلاقى القطبان (المصرى والتركى) فإنهما يضعان ركيزتين للمنطقة التى تموج بثورات عديدة.. ومرشحة لمزيد من الانتفاضات، لذا فإنه من الحيوى أن يكون هناك صمام أمان.. أو صمامان لضمان الحد الأدنى للاستقرار والأمن فى الشرق الأوسط. وتزداد أهمية هذه الركيزة الاستراتيجية مع تصاعد مؤامرات الأعداء وطموحات الأصدقاء.. وتطلعات الفقاقيع إلى أدوار تفوق حجمها ووزنها.. وتريد أن تشتريها بمالها.. ونفطها! كلنا يدرك أن إسرائيل أول المتآمرين على ثورات المنطقة.. فهى تهوى التعامل مع الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية.. والشياطين التى تعرفها خير لديها.. من الملائكة التى لا تعرفها! رغم أنها لا تعرف ولا تتعامل سوى مع الشياطين! إسرائيل التى خربت أسطول الحرية (1) وتخرب أسطول الحرية (2) لا يعجبها التقارب المصرى التركى.. بل إنها ضد ارتقاء هذا التعاون إلى المستوى الاستراتيجى بين اثنين من أكثر القوى الإقليمية نفوذاً وتأثيراً.. عبر التاريخ. ومن المؤكد أن مصر بعد الثورة تبنى علاقاتها مع تركيا على أسس موضوعية.. أبرزها التكافؤ وعدم التبعية وإدراك قدرات كل منهما وأنهما قادرتان على قيادة المنطقة ببراعة تفوق إسرائيل التى فقدت الكثير من قوتها ونفوذها.. وأصبحت تمثل عبئاً على الغرب والمنطقة.. والعالم بأسره.. بما تختلقه من مشاكل وبما تصنعه من أزمات. ولا يخفى على المتابع المدقق لتطورات المنطقة أن الولاياتالمتحدة وإسرائيل – والغرب عامة – لا يريدون الديمقراطية والحرية للمنطقة.. لأن هذا يعنى ببساطة أن شعوبها سوف تكسر قيودها.. وتصنع نهضتها وتنطلق نحو آفاق رحبة من التقدم والمنافسة، وهذا غير مرغوب.. بل ومرفوض إسرائيلياً.. وغربياً! وللأسف الشديد.. فإن طموحات الأصدقاء.. أو مِن مَن يدعون الصداقة والأخوة.. تصب فى نهاية المطاف فى صالح أعداء الأمة.. وضد مصلحة شعوبها وتحاول إجهاض ثوراتها، هؤلاء الأصدقاء يخفون العداء ويجاهرون بالدعم والمساندة، وللأسف الأشد.. فإن بعض الهامشيين والمتطفلين يقومون بأدوار مضادة للثورات العربية.. رغم أن ظاهر ما يقومون به هو دعم هذه الثورات.. بالإعلام والميكروفونات.. وهم فى الحقيقة يتآمرون مع أعداء الأمة. ومن هذا المنطلق تأتى أهمية التعاون المصرى التركى.. خاصة بعد ثورة يناير التى حررت مصر من أغلال كثيرة وسوف تعيدها – بمشيئة الله – إلى وضعها الطبيعى الرائد. وهنا نقول إن التعاون المصرى التركى يصب فى خانة التكامل.. لا التنافس، وقد يقول البعض إن وضع تركيا منحها قوة ونفوذاً أكبر من مصر. وهذا صحيح فى جانب منه.. حتى نكون واقعيين عند التقييم الموضوعى للعلاقة بين البلدين، ولكنه لا يلغى دور مصر التاريخى المعروف.. هذا الدور الذى عاد إلى مصر.. وعادت إليه أرض الكنانة.. كابن يشتاق إلى حضن أمه بعد سنوات من الأسر والانكسار فى ظل النظام البائد. العلاقة المصرية التركية تقوم إذاً على أساس من التكافؤ والاحترام المتبادل والأخوة العميقة إضافة إلى المصالح المشتركة.. ويكفى أن أنقرة قد أعلنت أنها سوف ترفع حجم استثماراتها فى مصر إلى ما يزيد على 12 مليار دولار، ولا مانع من الاستفادة من التجربة التركية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً أيضاً.. فقد حققت أنقرة تقدماً وتفوقاً واضحاً فى هذه المجالات وغيرها.. مما يصب فى مصلحة مصر والمنطقة كلها. *** وإذا قمنا باستعراض أسس التحرك التركى.. نلاحظ أنه يقوم على الإدراك الكامل لقدرات أنقرة وموقعها الجيوبوليتيكى.. خاصة بعد قيادة حزب العدالة وتأكيد تفوقه داخلياً.. من خلال نهضة شاملة ورائعة. أيضاً.. نجحت «تركيا العدالة» فى القيام بدور سياسى استراتيجى مؤثر على عدة محاور.. داخل حلف الأطلنطى.. وعلى المستوى الإقليمى والعربى والإسلامى.. بل وعلى المستوى الدولى أيضاً، وقدمت أنقرة مبادرات كثيرة.. كان من المفروض أن تقوم بها مصر خلال السنوات الماضية.. أثناء حكم النظام البائد. مبادرات إزاء القضية الفلسطينية والملف النووى الإيرانى.. بل والملف السورى الإسرائيلى قبل اندلاع الثورة الشامية.. بل إنها تدخلت فى الأزمات الليبية والعراقية والمصرية أثناء الثورة.. كل هذه المبادرات اتسمت بالجرأة والشجاعة والدراسة الدقيقة. ورغم الصدامات التى حدثت بين إسرائيل وتركيا.. فى مواقف عديدة.. إلا أن أنقرة حرصت على شعرة معاوية.. فى إطار حلف الناتو أو الاتفاقات العسكرية والأمنية والسياسية مع تل أبيب، ولم تقم أنقرة بإلغاء أى من هذه الاتفاقات التى مازالت استراتيجية.. رغم كل التحولات التى شهدتها فى عهد الطيب أردوغان. وتدرك تركيا بعمق أن محيطها الطبيعى هو العربى الإسلامى.. وليس الأوروبى، فالاتحاد الأوروبى يرفض صراحة ضم دولة إسلامية كبرى إلى عضويته.. رغم إعلان بعض أعضائه تأييدهم لانضمام تركيا للاتحاد، ولكنه نوع من اللعب وتوزيع الأدوار الذى تدرك أنقرة أبعاده وخباياه. لذا جاء التوجه التركى إلى المحيط العربى والإسلامى كخيار أساسى واستراتيجى.. وطبيعى، ومحور هذا التحرك هو القاهرةوأنقرة.. هذا ما حدث قبل قرون.. وسوف يتجدد خلال الأيام والسنوات القادمة.. إذا لم يتم التلاعب بالثورات.. ومحاولة البعض تحويل الربيع العربى.. إلى صيف ساخن.. جداً!