فى غمرة الانفعالات الثورية التى نحياها منذ الخامس والعشرين من يناير يوم تفجرت ثورتنا المصرية الرائعة، قد يبدو هذا الرأى الذى يتضمنه المقال رأيا متناقضا مع مشاعر هذه الانفعالات، ولكن بشىء من التفكير الموضوعى ربما أجد من يتفهمه ويدرك دواعيه، التى هى الأبعد تماما عن الإشادة بقدر ما هو التزام بالموضوعية التى يجب أن تكون منهاجا فكريا لنا جميعا، حتى لا ننحى شريحة كبيرة من المواطنين الشرفاء الذين قادهم حظهم العاثر للانضمام إلى هذا الحزب، والذى جعلته ثلاثون عاما من الاستبداد والقمع والانتهازية حزبا سيىء السمعة.. وهو الحزب الوطنى الديمقراطى المنحل. وبداية فإن هذا الحزب باسمه التاريخى هو الذى أسسه المجاهد الكبير مصطفى كامل فى بداية القرن الماضى، والذى دفع شبابه ثمنا لوطنيته مع رفيق دربه النضالى الزعيم محمد فريد الذى أنفق كل ثروته الطائلة فداء لمصريته.. ومرت السنون ليعيد الرئيس الراحل أنور السادات إحياء الحزب الوطنى فى ثوب سياسى جديد لحزب آخر لم يعد له على الساحة السياسية سوى اسمه (حزب مصر العربى الاشتراكى) لينضم إلى قائمة الأحزاب الكرتونية التى تمتلئ بها هذه الساحة دون فعالية تذكر.. وتمر سنوات أخرى لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة لتحدث واقعة المنصة الشهيرة ويذهب أنور السادات شهيدا فى ذكرى يوم انتصاره فى السادس من أكتوبر 1981 ويلقى معه الحزب الوطنى قدره المحتوم هو الآخر منذ بداية عهد الرئيس المخلوع حسنى مبارك ومعه ابتلى هذا الحزب بطغمة من المنتفعين ممن تسلقوا سلم الحزب طمعا فى الاستحواذ على المغانم التى حولتهم من أصفار يمتلكون أصفارا إلى أصحاب المليارات من دم الشعب المصرى الذى ظل فى حكمهم البائد يعانى مرارة الظلم والفقر والحرمان. وكان طبيعيا أن يثور الشعب على يد شبابه الثوار فى يناير ومعها بدأ تساقط رموز هذا الحزب حتى صار المشهد أمامنا أشبه بكوميديا سوداء حيث بدا لنا أن حكامنا السابقين ما هم إلا تشكيل عصابى مارس كل ألوان النهب والسلب، وتجرد من كل ما ينسبه لمصريتنا التى تجلت فى أبهى صورها فى نجاح الثورة المصرية التى أدت بهم جميعا إلى سجن مزرعة طره فى سابقة لم تحدث فى تاريخ الثورات على مستوى العالم، حيث اكتمل تشكيل حكومة الطغيان ومعهم رئيسهم ونجلاه فى زنازين انفرادية بزيهم الموحد (اللباس الأبيض) الذى نراه جميعا على غير حقيقته غاية فى السواد الذى يعبر عما ارتكبوه فى حق الشعب الذى ينتظر فيهم القصاص العادل على يد قضاة مصر الشوامخ. وإذا كان من أولويات ثورتنا العظيمة ترسيخ الديمقراطية التى تضمن للشعب المصرى حقوقه فقد جاء الحكم التاريخى لقضائنا العادل بحل الحزب الوطنى اللاديمقراطى حتى تنطوى صفحته السوداء التى ازدحمت قائمتها بشتى ألوان الفساد، الذى كان هو الدافع الرئيسى لقيام الثورة المصرية، ولم يكتف الحكم بذلك وإنما تضمن أيضا أن تؤول مقار الحزب وميزانيته المنهوبة إلى الدولة.. وقد تصادف أن يتزامن هذا الحكم مع إجراءات ميلاد جديد لحزب يحمل اسم الحزب الوطنى ولكن مع إضافة صفة (الجديد) وكأن مؤسسه المحامى الشهير طلعت السادات أراد بهذه الإضافة أن يتبرأ من جرائم الحزب المنحل تمهيدا لعهد جديد يتسق مع مبادئ ثورة يناير بأعضاء جدد ليسوا على شاكلة قيادات الحزب المنحل.. وإذا كنا هنا نقر بأن التعميم هو خطأ بكل المقاييس إلا أن الظلال السوداء التى تركها قيادات النظام الفاسد ستظل حائطا قائما يحول دون اقتناع أعضاء جدد للانضمام إلى الحزب الوليد ومن هنا نقترح على القائمين على تأسيسه إطلاق اسم جديد تخلو ساحته السياسية من أحداث الفساد التى انقضت بسقوط النظام البائد إلا أنها سوف تبقى على سبيل الذكريات المسيئة لاسم الحزب المنحل عالقة فى أذهان كل الشعب المصرى الأصيل مما يحد من طلاقة العمل السياسى حيال الحزب المزمع إنشاؤه حيث ستظل هذه المثالب جاثمة على صدور المصريين لما ذاقوه من مظاهر القمع والقهر والاستبداد فهل يعى جيدا مؤسسو الحزب الجديد هذه النقائص التى سجلها التاريخ مرتبطة بالحزب الفاسد المنحل وباسمه البغيض رغم رصيده التاريخى قبل أن تلوث ساحته بكل هذه المظالم والتى من شأنها أن تقف حجر عثرة أمام ما يأمله طلعت السادات ورفاقه من خدمة حزبهم للعمل السياسى المصرى وتفعيل ما ينشدونه من إثراء وإضافة للحركة الحزبية المصرية فى عهدها الجديد.