جاء خطاب الرئيس مبارك فى افتتاح الدورة البرلمانية الأسبوع الماضى بمثابة أقوى ختام لعام 2010 ولعقد كامل من القرن الحالى.. الذى نودعه ويودعنا بعد ساعات، ليبدأ العام الجديد 2011.. أول أعوام العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين من الألفية الثالثة، قوة خطاب الرئيس تبدت فى استشرافه للمستقبل بانطلاقة جديدة تستهدف إرساء دعائم الدولة المدنية الحديثة. عشر سنوات كاملة.. مرت سريعا بحلوها ومرها، كان المشهد المصرى الداخلى خلالها محتشدا بالأحداث والتغيرات والتحولات المهمة، وعلى النحو الذى تبدو معه مصر وهى تستقبل أولى سنوات العشرية الثانية من هذا القرن.. غير مصر التى كانت فى نهاية القرن العشرين. ولعله لا خلاف على أن ما جرى على الصعيد السياسى كان بحق أهم الأحداث والتحولات فى المشهد المصرى خلال السنوات العشر، ومن ثم فإن قراءتها تكتسب أولوية قبل غيرها، باعتبار أن تأثيراتها وتداعياتها قد امتدت بامتداد خريطة النشاط الإنسانى للمصريين فى كافة مجالات الحياة. وأحسب أن أهم وأخطر التحولات السياسية فى المشهد المصرى على الاطلاق كان تعديل المادة 76 من الدستور بمبادرة رئاسية من الرئيس مبارك شخصيا فى صيف عام 2005، وهو أهم تحول سياسى فى مصر منذ قيام ثورة يوليو عام 1952 وإعلان الجمهورية بديلاً للنظام الملكى. ووفقا لذلك التعديل الدستور تم اختيار رئيس الجمهورية لولاية جديدة بالانتخاب الحر المباشر بين عدة مرشحين، حيث انتهى إلى غير رجعة اختيار الرئيس بالاستفتاء على مرشح واحد.. يرشحه مجلس الشعب حسبما كانت تقضى المادة 76 قبل تعديلها. لقد كانت انتخابات رئاسة الجمهورية التى جرت فى خريف 2005 - وإن جاءت متأخرة - نقلة سياسية نوعية مهمة وتطوراً بل تحولا ديمقراطيا ضروريا.. يحسب للرئيس مبارك وسوف يدخل به التاريخ. ورغم الانتقادات التى وجهت إلى هذه المادة الدستورية بعد تعديلها من جانب أحزاب المعارضة وبعض فقهاء الدستور والقانون، وفى مقدمتها أن نص المادة جاء طويلاً بأكثر مما يجب وبأكثر مما جرى العرف عليه فى صياغة مواد الدساتير، حيث بدت كما لو كانت نص مادة فى قانون، وهو التطويل الذى رأى المعترضون أنه مقصود ومتعمد تجنبا لأى طعن بعدم دستورية ما تضمنه من ضوابط وشروط اعتبرها المعترضون تعجيزية. رغم الانتقادات فإن يبقى وفى كل الأحوال أن هذا التعديل الدستورى من حيث المبدأ كان تحولا وتطورا سياسيا وديمقراطيا مهما وضروريا، ويبقى أيضاً أنه قابل لتعديل آخر لاحق.. أكثر ديمقراطية لإلغاء ما تعتبرها المعارضة ضوابط وشروطا تعجيزية، وعلى النحو الذى يزيد من فرص الراغبين فى الترشح لرئاسة الجمهورية. ولأن الديمقراطية تستدعى المزيد من الديمقراطية، فقد كان تعديل المادة 76 من الدستور بما له وما عليه.. بداية لحراك سياسى كبير فى السنوات الخمس الأخيرة، وإن بدا غير مكتمل النضج واتسم بالمراهقة السياسية، وتبدى بوضوح فى المشهد المصرى.. متمثلاً فى حركات احتجاجية شعبية خارج إطار المعارضة الحزبية الرسمية أو بالأحرى الشرعية.. كان من بينها حركة «كفاية» والتى ظهرت محاكاة لحركات بنفس الاسم فى بعض دول أوروبا الشرقية، ثم كانت حركة «6 أبريل» وغيرها من الجبهات والحركات الاحتجاجية المعارضة، حيث جاء ظهورها دليلاً يعكس غيبة الأحزاب الشرعية فى الشارع وعجزها عن التعبير عن نبض ومشكلات الجماهير، بل لقد امتد الحراك السياسى إلى الجامعات، حيث ظهرت حركة «9 مارس» التى أسسها عدد غير قليل من أساتذة الجامعات.. احتجاجا على بعض الأوضاع الأكاديمية والإدارية داخل الجامعات المصرية. وفى نفس الوقت فقد كانت الاعتصامات والإضرابات العمالية وغير العمالية التى قام بها المهنيون من أطباء ومدرسين وصيادلة ومحامين والتى انضم إليها ولأول مرة موظفو الحكومة فى عدد من المصالح والهيئات الحكومية.. كانت هذه الاعتصامات والإضرابات تحولا جديدا غير مسبوق فى المشهد المصرى الداخلى خلال السنوات العشر الأخيرة.. وكانت جزءاً من الحراك السياسى الذى شهدته مصر لأول مرة منذ أكثر من ستة عقود.. منذ قيام ثورة يوليو 1952. هذا الحراك السياسى الكبير كان فى حقيقته انعكاسا للتطور الديمقراطى الذى شهدته مصر فى العشرية الأولى من هذا القرن، وهو أمر يحسب فى كل الأحوال للنظام الذى كان لزاما عليه بحكم الزمن وبفعل المد الديمقراطى فى العالم.. توسيع هامش الحرية والديمقراطية والإقدام على خطوات ديمقراطية بدت ضرورية مع بداية قرن جديد وأمام مد ديمقراطى طاغ يسود العالم. فى سياق هذا الحراك السياسى، فقد شهدت السنوات العشر زيادة كبيرة فى عدد الأحزاب، حيث بلغ عددها 24 حزبا، إلا أنه من المؤسف أن غالبيتها مازالت أحزابا ورقية.. ضعيفة البنية.. وليس لها وجود فى الشارع السياسى وبين الجماهير، وهو الأمر الذى يعنى خللاً فادحاً فى التركيبة الحزبية.. أكدته الانتخابات البرلمانية الأخيرة وبما يثير القلق على التعددية الحزبية كأساس يقوم عليه النظام السياسى، ومن ثم فقد بات ضروريا إعادة النظر فى قانون الأحزاب الحالى لإتاحة الفرصة لقيام أحزاب قوية فاعلة مع ملاحظة أن الأحزاب القوية هى التى تخرج من البرلمان. *** على الصعيد الاقتصادى، ورغم ما شهدته مصر خلال السنوات العشر من إصلاح ونمو اقتصادى، فإن ناتج هذا النمو لم ينعكس على محدودى الدخل حتى الآن، وهو الأمر الذى يثير التساؤل والدهشة معا، بقدر ما يتطلب سياسات حكومية تتجه أكثر نحو الطبقات الأقل دخلا، والتى تزداد معاناتها الاقتصادية رغم كل الإنجازات التى تعلنها الحكومة. ومن المفارقات أنه رغم تلك المعاناة الاقتصادية، فإن أنماط الحياة والاستهلاك فى مصر خلال السنوات العشر شهدت تطورا كبيراً متناقضا مع الشكوى من الأوضاع الاقتصادية، إذ لا يوجد بيت واحد فى مصر إلا ودخلته الأطباق الفضائية، وهو تطور يمثل نقلة ثقافية إعلامية بالغة الأهمية فى حياة المصريين، وفى نفس الوقت لا توجد أسرة واحدة فى الريف والحضر على حد سواء إلا وقد امتلك أفرادها أو أحدهم جهاز تليفون محمول، وعلى نحو يمثل تحولا اجتماعيا كبيراً، وفى نفس السياق فإن انتشار أجهزة «الكمبيوتر» و«اللاب توب» فى المجتمع المصرى وعلى نحو واسع يعد أيضاً تطورا مهما فى حياة المصريين. *** وفى مقابل تلك التطورات والتحولات الايجابية فى المشهد المصرى، فإن دواعى الموضوعية تقتضى أيضاً الإشارة إلى كثير من الأحداث المؤسفة وإلى التحولات والتغيرات السلبية التى طرأت أو تزايدت فى المجتمع المصرى وفى الشخصية المصرية، حيث كانت أخطرها الكوارث البشرية.. بداية من كارثة احتراق قطار الصعيد قبيل عيد الضحى قبل سبع سنوات والتى راح ضحيتها مئات القتلى ونهاية بكارثة غرق العّبارة التى راح ضحيتها أكثر من ألف قتيل، ولقد كانت هاتان الكارثتان دليلا دامغا على إهمال جسيم فى الأولى وفساد فادح فاضح فى الثانية، وما بين الكارثتين فإن حوادث الطرق المتكررة يوميا فى السنوات العشر والتى فاق ضحاياها شهداء مصر فى كل الحروب التى خاضتها تعد وبحق أم الكوارث فى المشهد المصرى. *** وفى مجال التعليم فإنه لا جديد فى المشهد المصرى، إذ لا يزال التعليم متراجعا.. مناهج دراسية وتدريسا ولايزال فى حاجة إلى جهد كبير للتطوير الذى لا بديل عنه لتحقيق النهضة المرجوة، أما أكاديميا فقد كان خروج مصر من قائمة أفضل 500 جامعة فى العالم صدمة حقيقية لا تتناسب مع ريادة مصر العلمية والحضارية.. مصر.. صاحبة أقدم جامعة فى العالم العربى وأفريقيا (جامعة القاهرة) والأزهر أقدم وأعرق جامعة فى العالم. *** اجتماعيا.. تعرض المجتمع المصرى خلال السنوات العشر لتحولات وتغيرات خطيرة.. طالت منظومة القيم والموروثات الأصيلة، وتبّدت واضحة فى ظاهرة العنف التى تزايدت حدتها بدرجة مقلقة ومفزعة، حيث بدأت شخصية الإنسان المصرى تفتقد تدريجيا أهم ملامحها وسماتها، إذ غابت روح التسامح والتراحم والتكافل، وغلبت عليها مظاهر العنف والاحتراب والانتقام.. وكلها صفات غريبة عن مصر والمصريين.