«لا تنظروا باستخفاف إلى المسرح السعودى، ولا تتسرعوا فى الحكم عليه قبل أن تشاهدوا عروضه».. هكذا قال لى الفنان سامى الجمعان مدير فرقة جمعية الفنون والثقافة بالإحساء والتى قدمت العرض السعودى «البندقية» ضمن عروض مهرجان المسرح التجريبى الأخير.. ولأننى لم أكن أعرف شيئاً عن هذا المسرح، فقد قلت لنفسى شاهد واحكم، ولم أكتف بعرض «البندقية»، لكنى شاهدت أيضاً المسرحية الثانية التى شاركت فى المسابقة الرسمية للمهرجان وهى «علامة استفهام.. لا أكثر». والحقيقة فإن الرجل كان محقاً، فالعرضان فرجة بصرية ممتعة، ويتفوقان فى مستواهما الفنى والفكرى على عروض أخرى مثلت دولاً لها تاريخ عريق فى فن المسرح. والمدهش فى العرضين أن جميع العناصر الفنية التى شاركت فيهما هى من الشباب الواعد الذين لا تتجاوز أعمارهم العشرينات. وهذا معناه أن الجيل الجديد فى السعودية محب للفن وعاشق للمسرح. ولفت نظرى بشدة فى العرض الأول «البندقية» أداء بطله الممثل الشاب عبد الرحمن المزيعل والذى ذكرنى بالنجم الأسمر الراحل أحمد زكى، ليس فقط فى ملامحه الشكلية، ولكن أيضاً فى أسلوب أدائه، وطريقته فى التعبير ونظرات عينيه، وهو بالإضافة إلى موهبته التمثيلية الكبيرة صاحب صوت جميل وشجى. والغريب أننى عرفت أنه لم يدرس التمثيل بشكل أكاديمى، لأن المملكة ليس بها معاهد لتدريس الفنون، وحصل فقط على دورات تدريبية، لكنه فاجأنى بتمكنه المذهل من استيعاب أبعاد الشخصية المركبة التى أداها فى العرض، وهى شخصية رجل باح بسره لأصدقائه، فحاربوه به، وظل شريداً مطارداً بسبب هذا البوح. أما مفاجأة العرض الثانى، فهى المخرج ومصمم الأداء الحركى التعبيرى للمسرحية عقيل الخميس، وهو أيضاً فى الرابعة والعشرين، وخريج معهد تمريض، ولا يزال يعمل ممرضاً، ويمارس التأليف والتمثيل والإخراج المسرحى على سبيل الهواية، ويرفض العمل فى الدراما التليفزيونية المربحة مادياً حتى لا يتخلى عن عشقه الوحيد لفن المسرح. أما المفاجأة الثالثة بالنسبة لى فكانت فى ذلك الاحتفاء الرسمى بالفن من خلال حرص السفير السعودى بالقاهرة على حضور العرضين وتشجيع الفنانين المشاركين فيهما. وهو تطور كبير فى طريقة التعاطى مع الفنون فى دولة ظلت لعقود طويلة متهمة بالانغلاق الفكرى وتصدير الأفكار والرؤى المتشددة للدول الإسلامية والعربية الأخرى. وإذا أضفنا إلى ملامح هذه الصورة المعرض الكبير الذى أقيم فى دار الأوبرا مؤخراً، وشارك فيه عدد كبير من الفنانين والفنانات التشكيليين السعوديين، ومستوى التحرر الفكرى والتعبيرى فى لوحاتهم، وإنتاج أفلام سينمائية سعودية لأول مرة رغم عدم وجود دور عرض بالمملكة، والتطور الكبير فى مستوى الدراما التليفزيونية الخليجية، لتأكدنا أن هناك رغبة حقيقية لدى شعوب هذه المنطقة، وخصوصاً فى السعودية للتخلص من النظرة القديمة للإبداع والفنون، وتخفيف الرقابة الشديدة المفروضة على الأدباء والفنانين، فى الوقت الذى تتراجع فيه دول أخرى تنسمت هواء الحرية منذ سنوات طويلة إلى الوراء، ونسمع فيها من يدعو إلى تحريم الفن، وتحطيم التماثيل الأثرية، باعتبارهاً أصناماً!