يعتبر الأب الروحى للمتصوفة فى مصر، ينسب إليه أنه ربَّى بها أربعين من الأولياء، أجلّ المناسبات الدينية وعظَّمها وصنع المواكب والرايات وركب الفرس لكى يهز مشاعر الناس ولكى يحيى هذه المناسبات فى وجدان المسلمين. له كرامات لا تعد ولا تحصى، وله أوراد لازال أتباعه يرددونها حتى الآن، أول من صاغ للمتصوفة أدعية خاصة للسفر فجاءت أوراد البر والبحر والنصر، رفض الخشن من الثياب والطعام، وقال لتلاميذه: «اعرف الله وكن كيف شئت». من دعائه:«اللهم إنا نسألك صحبة الخوف، وغلبة الشوق، وثبات العلم ودوام الفكر، ونسألك سر الأسرار المانع من الإصرار حتى لا يكون لنا مع الذنب أو العيب قرار». «اللهم صلنى باسمك العظيم الذى لا يضر معه شىء فى الأرض ولا فى السماء، وهب لى منه سرا لا تضر معه الذنوب شيئاً واجعل لى منه وجها تقضى به الحوائج للقلب والروح والعقل والسر والنفس والبدن، ووجها ترفع به الحوائج من القلب والعقل والسر والروح والنفس والبدن وادرج صفاتى تحت صفاتك، وأفعالى تحت أفعالك درجة السلامة وإسقاط الملامة وتنزل الكرامة وظهور الإمامة». إنه على بن عبدالله بن عبد الجبار المعروف بأبى الحسن الشاذلى، وينتهى نسبه إلى الإمام الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم أجمعين، ولد ببلاد المغرب سنة 593 ه بقرية تسمى «غمارة» ودرس بها العلوم الدينية ويقول عنه ابن عطاء الله السكندرى: لم يدخل طريق القوم حتى كان يعد للمناظرة فى العلوم الظاهرة. وشعر أبو الحسن بالرغبة الملحة فى القرب من الله فكيف يروى هذه الرغبة؟ وكيف يسير فى الطريق؟.. ومن أين يبدأ؟ أخذ يبحث عن شيخ خبير يأخذ بيده نظر مثل غيره إلى بغداد، فهى منذ عهد العباسيين كانت دائماً محط أنظار طلاب العلم، تضم كبار الفقهاء وأعلام المحدثين والقمم العوالى من الصوفية. وهاجر إلى العراق والتقى بالأولياء وذات يوم قال له أحدهم: إنك تبحث عن القطب بالعراق مع أن القطب ببلادك وعاد من حيث أتى يبحث عن الولى الكبير عبدالسلام بن مشيش، ظل يبحث عنه ويسأل عن مكانه حتى وصل له فى مغارة فى رأس جبل، فاغتسل أبو الحسن من عين بأسفل ذلك الجبل، ويقول: خرجت عن علمى وعملى وطلعت إليه فقيراً، وإذا به هابط إلى فقال لى: مرحباً بعلى بن عبد الله بن عبد الجبار، قال: يا على طلعت إلينا فقيراً من علمك وعملك فأخذت منا غنى الدنيا والأخرة. ولقد بهر ابن مشيش أبا الحسن الشاذلى بعلمه المشيّد على الكتاب والسنة وبهره بولايته وكراماته. ورسم ابن مشيش حياة أبى الحسن فيما يستقبله من أيام، رسم له وهو ينظر إلى الغيب بنور الله ما يكون من خريطة حياته التى تحققت حرفياً، فقال له حينما انتهت مدة إقامته عنده: يا على ارتحل إلى إفريقيا، واسكن بها بلداً يسمى بشاذلة فإن الله عز وجل يسميك الشاذلى، بعد ذلك تنتقل إلى أرض تونس ويؤتى عليك بها من قبل السلطنة، أى تجد صعوبات ومشاكل من قبل رجال السلطان وبعد ذلك تنتقل إلى أرض المشرق وبها ترث القطابة. يقول صاحب كتاب درة الأسرار: قرأ الشيخ يوماً على جبل زغوان سورة الأنعام إلى أن بلغ قوله تعالى:«وأن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها».. فأصابه حال عظيم وجعل يكررها ويتحرك وخُيل لمن حوله أنه كلما تحرك إلى جهة مال الجبل نحوها حتى سكن فسكن الجبل. وما كانت حياتهما على الجبل إلا على نباتات الأرض وأعشابها حتى أنه كثيراً ما كانت أشداق الحبيبى تتقرح فيشفق عليه أبوالحسن وينزل معه إلى شاذلة ليجد الغذاء الذى لا يضره. ويحكى الحُبيبى كيف أنبع الله لهما عينا تجرى بماء عذب، وكيف كانت الملائكة - يراها الحبيبى - تحف بأبى الحسن بعضها يسأله فيجيبه، وبعضها يسير معه، وكيف كانت أرواح الأولياء زرافات ووحدانا تحف بالشيخ حقيقة لا خيالا. أيام المحنة/U/ لكل ولى ولكل نبى ولكل عالم محنة دنيوية شديدة، محنة أبوالحسن الشاذلى بدأت عندما نزل مدينة تونس، هناك كثر المريدون واجتمع عليه خلق كثير، وبدأت الغيرة تدب فى قلب ابن البراء قاضى القضاة، وأعلن الحرب على أبى الحسن وصور للسلطان أنه فى طريقه أن يصبح زعيماً شعبياً خطيراً، وأن ملكه فى خطر. وجمع ابن البراء جماعة من الفقهاء لإحراج الشيخ، وجلس السلطان خلف حجاب وحضر الشيخ رضى الله عنه وتحدثوا معه فى كل العلوم فأفاض عليهم بعلوم أسكتهم بها، وأعجب السلطان به ورأى شيخاً مهيباً وإن كان مازال فى سن الفتوة، وقال لابن البراء: هذا رجل من أكابر الأولياء ومالك به طاقة، ولكن ابن البراء يلوح مرة أخرى بخطره على الملك فيقول: والله لئن خرج الشيخ فى هذه الساعة ليدخلن عليك أهل تونس ويخرجونك من بين أظهرهم فإنهم مجتمعون على بابك. فأذن السلطان أبو زكرياء بخروج الفقهاء وأمر الشيخ بالبقاء، وجلس الشيخ هادئاً ساكن النفس، مطمئن القلب، وطلب ماءً وسجادة فتوضأ وصلى وهمَّ أن يدعو على السلطان، فنودى فى سره: أن الله لا يرضى لك أن تدعو بالجزع من مخلوق. فأخذ يدعو: يا من وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلى العظيم، أسألك الإيمان بحفظك إيماناً يسكن به قلبى من هم الرزق وخوف الخلق، وأقرب منى بقدرتك قرباً تمحق به عنى كل حجاب محقته عن إبراهيم خليلك فلم يحتج لجبريل رسولك ولا لسؤاله منه. ويحكى الإمام عبد الحليم محمود رحمه الله عن هذه المحنة فيقول: لقد كان عند السلطان فى ذاك الحين جارية عزيزة عليه، وفى لحظات مرت سراعاً أصابها وجع فتألمت واستغاثت وماتت من حينها. ويقول: لا شك أن أجلها كان قد انتهى وأن هذه اللحظات كانت مقدرة فى علم الله منذ الأزل، ولكنه لا ريب أيضاً أن المقادير رتبت هذا ساعة أن منع الشيخ من الخروج فجاء موتها وكأنه عقاب للسلطان، أهى كرامة؟ ويرد على السؤال قائلاً: وماذا تكون الكرامة غير ترتيب مقادير. واشتغلوا بغسل الجارية وأخرجوها للصلاة وأغفلوا مجمراً فى البيت وكان ذلك تدبيرا آخر من الأقدار، فالتهبت النار ولم يشعروا بها حتى احترق كل ما فى البيت من الفرش والثياب وغير ذلك من النفائس وعلم السلطان أنه أصيب من قبل هذا الولى. وخرج الشيخ إلى داره فى اليوم نفسه واستمر كعادته فى الإرشاد والنصح وحلقات الدرس، ولكن نيران ابن البراء لم تهدأ، وبمجرد أن عزم الشيخ على الذهاب إلى الحج، وأعلن أصحابه بالاستعداد للرحيل إلى مصر ليمكثوا بها قليلاً قبل التوجه إلى الأراضى المقدسة يقوم ابن البراء بعمل رسالة تسبق القافلة ويحكى صاحب درة الأسرار عن هذه الواقعة قائلاً: فلما توجهنا إلى المشرق ودخلنا الإسكندرية عمل ابن البراء عقداً بالشهادة أن هذا الواصل إليكم شوَّش علينا بلادنا وكذلك يفعل فى بلادكم، فأمر السلطان أن يعتقل بالإسكندرية فأقمنا بها أياما، ثم جاءه عدد من مشايخ القبائل فى مصر يشكون إليه مظالم السلطان ويطلبون منه الدعاء، فقال لهم: غدا إن شاء الله نسافر إلى القاهرة ونتحدث مع السلطان فيكم، فسافرنا وخرجنا من باب السدرة فيه الجنود والوالى، ولا يدخل أحد ولا يخرج حتى يفتش، فما كلمنا أحد ولا علم بنا. فلما وصلنا القاهرة أتينا القلعة فاستأذن الشيخ على السلطان، قال: كيف وقد أمرنا أن يعتقل بالإسكندرية؟.. فأدخل على السلطان والقضاة والأمراء فجلس معهم ونحن ننظر إليه، قال له الملك: ما تقول أيها الشيخ؟.. فقال: جئت اشفع إليك فى القبائل، فقال له اشفع فى نفسك. فقال له الشيخ: أنا وأنت والقبائل فى قبضة الله، وقام الشيخ فما مشى قدر العشرين خطوة حركوا السلطان فلم يتحرك ولم ينطق، فبادروا إلى الشيخ وجعلوا يقبلون يديه ويترجونه فى الرجوع إليه، فرجع إليه وحركه بيده فتحرك، ونزل عن سريره وجعل يعتذر ويطلب منه الدعاء، وأقمنا عنده فى القلعة أياما، واهتزت بنا الديار المصرية إلى أن طلعنا إلى الحج. أيام المنن/U/ ويذهب الشيخ إلى مكة ويعود إلى تونس ثم يأتيه الأمر: « يا على انتقل إلى الديار المصرية تربى فيها أربعين صديقاً». وكان مسكنه رضى الله عنه بالإسكندرية ببرج من أبراج السور، حبسه السلطان عليه وعلى ذريته، وتزوج هنالك وولد له أولاد. ولقد كانت إقامته بمصر مصداقاً لما نودى به حينما دخلها، يقول رضى الله عنه: لما قدمت الديار المصرية قيل لى: يا على ذهبت أيام المحن وأقبلت أيام المنن، عشر بعشر، اقتداء بجدك صلى الله عليه وسلم. ودخل عليه مرة فقير وعليه لباس من شعر فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا منه وأمسك ملبسه وقال: يا سيدى ما عُبد الله بمثل هذا اللباس الفاخر الذى عليك، فأمسك الشيخ ملبسه فوجد فيه خشونة.. فقال: ولا عُبد الله بمثل هذا اللباس الذى عليك، لباسى يقول: أنا غنى عنك فلا تعطونى، ولباسك يقول أنا فقير إليك فاعطونى. ويعقب ابن عطاء الله السكندرى على هذه القصة فيقول وهكذا طريق الشيخ أبى العباس المرسى وشيخه أبى الحسن رضى الله عنهما. وفى يوم دخل أبو العباس المرسى على الشيخ أبى الحسن وفى نفسه أن يأكل الخشن وأن يلبس الخشن فقال له الشيخ: يا أبا العباس أعرف الله وكن كيف شئت. وكان رضى الله عنه يقول «يا بنى برد الماء، فإنك إذا شربت الماء الساخن فقلت الحمد لله تقولها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد، فقلت الحمد لله استجاب كل عضو منك بالحمد لله. هذا هو أبو الحسن الشاذلى الذى كان من دعائه رضى الله عنه: اللهم اجعل الدنيا فى أيدينا ولا تجعلها فى قلوبنا. هذا هو الولى الذى لم تنقطع كراماته حتى الآن بين يدى رجال من سلاسل الأولياء الذين خرجوا على يديه إلى طريق الولاية الحقة والتى كان من أهم شروطها كما يقول تلميذه أبوالعباس المرسى: لم نكن نقبل إلا من حصَّل علوم الشرع أولاً. أما الكرامة التى تحير العقل فتأتى من تلك الحكاية التى يرويها تلميذه أبوالعباس وهو يحكى عن وفاة الشيخ، يقول: كنا فى رحلة إلى الحج، وفى صحراء حميثرة فى منتصف الطريق بين أسوان والقصير على ساحل البحر الأحمر، قال الشيخ: أموت الليلة، وطلب منى أن أغسله بمفردى دون أن يشاركنى فى هذا العمل أى من تلاميذه، وقال: سوف يأتى رجل لمساعدتك فلا تسأله من أنت، وتوفى الشيخ وقمت للمهمة التى كلفنى بها فإذا برجل لا أعرفه يدخل على ويساعدنى فى تجهيزه ودفنه، وبعدها نظرت إليه وسألته: من أنت يا سيدى، فأجابنى قائلاً: ألم يقل لك لا تسألنى من أنا؟!.