الزمن من أكثر العناصر المعقدة المحيطة بنا، وما محاولاتنا لإدراكه سوى محاولات بائسة، فالوقت يتحرك بقيمته الزمنية للأمام دائمًا، وليس بمقدورنا وقفه أو إبطاؤه أو إرجاعه، أما فيما يخص مساحة ما نفعله فيه فهو كما يصف العامة "اتقلت بركته"؛ لكن سواء بقيمته أو ببركته التى انتزعت منه فإنه هذا الغامض الثابت فى ماضيه. ولعل ذلك المحدد المعتبر هو ما جعل خيال السينمائيين "يشطح" بإمكانية إعادته بطرح سؤال: هل بالفعل يمكنا تغيير الماضى إذا ما عرفنا تبعاته على الحاضر الذى نعيشه؟ هذا السؤال أغرى آخرين بالطمع للجرى بالزمن للأمام حيث المستقبل الذى لن نحياه بأعمارنا، فكان الخيال السينمائى هو الحل لديهم لاكتشاف مصائرنا المنتظرة التى لن نراها؛ وبين هذا وذاك كانت السينما وحدها القادرة على نقل هذا التفكير بإبداع، فراحت بالزمن للأمام مرة وقذفت به للخلف تارة بأفكار مختلفة يضمها عنوان كبير وهو "السفر عبر الزمن"، فخرجت دلالات تلك الرؤى السينمائية المتباينة بثلاثة استنتاجات قوية: أولًا.. لا يمكن أن تأتى الرياح بما تشتهى السفن حتى إن عاد الزمن للوراء. ثانيًا.. يجب إعطاء الحب للآخرين فى موعده قبل أن يفوت الأوان. ثالثًا.. كل يوم هو فرصة ذهبية للسعادة مهما كانت الحياة مزعجة. ولجمال فكرة البحث فى الزمن وبريقها وقف النقاد كثيرًا أمامها بالنقاش، فليس كل الأفلام التى تناولت الزمن رائعة، كما أنها يمكن تصنيفها على أنها أفلام خيال علمى لا تماس بينها وبين الأفلام التاريخية والوثائقية والتسجيلية سوى أنها جميعًا فى النهاية تتحدث عن الزمن. الزمن تيك توك صنف النقاد أفلام الزمن سواء بالسفر عبره أو البحث فيه، كفيلم مثل in time، الذى تقوم فكرته حول ماذا إن تحول الزمن إلى عمله نشترى بها الحياة بكل تفاصيلها.. فآنذاك سيكون الفقراء من محدودى الأعمار بينما الخلود سيكتب للأغنياء. فقد يكون من آفة ما قاموا به هو وضعهم كل تركيبة لهذه النوعية من الأفلام بسلة واحده، فخرجوا بعشرة أفلام فقط هى أقيم ما قدم فى هذا الإطار حتى عام ٢٠١٩ . ويبدو أن عنصر الزمن ما زال يشغل الأذهان في ٢٠٢٠، إذ إن السباق المحتدم لنيل الأوسكار هذا العام قد بدأ العد التنازلى له برأى الجمهور المؤهل لحصد جوائز الجولدن جلوب، أشهر جائزة سينمائية ترشح الفائزين بها لحصد جوائز للأوسكار، وبتفقد تلك الترشيحات لهذه الجائزه نجد من بينها فيلم "الأمس ( yesterday)، إخراج دانى بويل صاحب الرائعتين الحائزتين على الأوسكار من قبل (slumdog millionaire و127 hours)، ويحكى عن قصة بسيطة لكنها تدور بنفس فلك البحث فى الزمن لشخص يستقيظ ليجد نفسه الوحيد فى العالم الذى يعرف فريق "البيتلز" وأغانيهم. ينافس هذا الفيلم مجموعة أخرى من الأفلام التى ترجع هذه المرة للزمن التاريخي، بعيدًا عن مناقشة عنصر الزمن نفسه، مثل فيلم "1917" إخراج سام منديز المعروف بشغفه الكبير بتقديم أفلام تاريخية، وما يضيف لهذا الفيلم هو الصورة التى ستنقلنا لأحداث جرت فى الحرب العالمية الأولى من كاميرا روجر ديكنز أحد أهم مديرى التصوير بالعالم والحاصد ل١٤ اوسكار من قبل، وهو أيضًا ولحسن الحظ ينافس هذا العام بفيلمًا آخر لنيل نفس الجائزة عن فيلم the cold finch لكنه خارج إطار أفلام الزمن التى نتحدث عنها. ومن نفس فئة الأفلام التاريخية هذا الموسم التي تناقش موضوعًا عن الزمن الماضى فيلم once upon a time in hollywood أو فيلم الكبار، وترجع التسمية للأسماء الكبيرة المشتركة ببطولته، منهم آل باتشينو، ليونارد دى كابريو، براد بيت، كيرت راسل، مارجو روبى للمخرج حاصد أكبر كم لمخرج وسيناريست من الأوسكار كوينتين تارانتينو، والذى لديه فيلم آخر للمنافسة أيضًا يعود به إلى سنة 1969، هو bad times at el royal. وقد استطاع إثارة الحماس لكل من جمهوره والنقاد حين أعلن الاعتزال بعد ذلك. وبعيدًا عن ماراثون الأوسكار، هناك أفلام أخرى تدعونا هذا العام للمشاهدة رجع صناعها فيها للماضى بأفكار مهمة، منها فيلم motherless brooklyn الذى تدور أحداثه فى خمسينات القرن الماضى عن رواية لجوناثان ليثم صدرت ١٩٩٩، بطلها محقق مصاب بمتلازمة توريث العصبية، يجد نفسه مضطرًا للتحقيق فى جريمة قتل لمعلمه وصديقه الوحيد، وبجانب هذا فيلمًا آخر للممثلة كيرا نايتلى بعنوان official secrets والذى أثار فور عرضه جدلًا واسعًا بالمجتمع الأمريكى ما زال دويه حتى الآن، لمناقشته قصة واقعية تتعلق بمسألة الصواب والخطأ، إذا كان الأمر يخص حياة البشر، ويطرح سؤالًا مهمًّا على المجتمع الغربي عن من المفترض أن يحاسب بصراع مشبوه غير مشروع قامت فيه البطلة الحقيقية كاثرين جن المترجمة السابقة بوكالة دولية بريطانية بانتهاك قانون السرية الرسمي، حينما سربت مذكرة أمريكية تطلب فيها واشنطن من بريطانيا المساعدة للتجسس على الأممالمتحدة قبل ضرب أمريكا للعراق؟! ومن كل هذا نكتشف أن ٢٠٢٠ هو عام مناقشة الزمن سينمائيًّا على خلفية ساخنة جدًّا، ليس فقط بهوليوود التى يخرج منها الأوسكار فحسب، بل على صراع سياسي ستشهده الولاياتالمتحدةالأمريكية بالانتخابات الرئاسية التي من المزمع أن تلقي بظلالها على الأوسكار، وتاريخ أمريكا نفسه والعالم بأسره. الزمن غير الوقت فى السينما والواقع.. والفرق بينهما أن الوقت هو البعد الرابع لأى كائن حي لديه ثلاثة أبعاد هى الطول والعرض والعمق، ويأتى الوقت ليضيف لتلك الأبعاد بعدًا رابعًا، فيكون تاريخ الميلاد والوفاة، وبهذا الموعد الأخير يكون قد انتهى الوقت لأي حي، أما الزمن فهو انطباع الوقت على النفس البشرية، أى هو إحساسنا بمروره علينا، وهل هو طويل أم قصير، ممل أم شيق، بطىء أم سريع؟ ذهب العلماء وراء السينمائيين فى خيالهم بالنسبة للزمن أو الوقت لدراسة الغامض الملهم لكل هذه الدرجة من البريق، فتوصلوا إلى أن بداخل الإنسان أكثر من ساعة، ولولا الذاكرة ما كان التعرف على الوقت ومرور الزمن عليه. وقد كان من العجيب أن نرى أثر السينما على العلم على هذا النحو، إذ إن فيلمًا مثل the carious case of benjamin button إخراج ديفيد فينشر بطولة براد بيت وكيت بلانشيت، كان محركًا للحياة العملية والطبية فى آن واحد، حين تخطى ببعده الفلسفي الذي طرحه كونه مجرد فيلم لفانتازيا الخيال، ليسأل السؤال الأهم عن الفارق بين أن يولد الإنسان كبيرًا ثم يأخذ فى الصغر إلى أن يموت، وبين أن يخلق طبيعيًّا فيكون صغيرًا ليكبر ويشيخ إذا كانت النهاية واحدة وهي الموت؟!.. وذلك من خلال تلك الساعة التي نراها في مقدمة الفيلم وهي تسير بالعكس. وقد كان الفيلم ترجمة لرؤية أدبية لرواية حملت نفس الاسم لسكوت فيتزجير صدرت ١٩٢٢، بينما أنتج الفيلم ٢٠٠٨، وحاول فيه مخرجه وكاتب حواره أن يجيب طوال عشر سنوات عن هذا السؤال الفارق. ويبدو أن الرجل لم يضيع عمره هباء، إذ استطاع أن يلهب به العقول، فقال الأطباء إن حالة بطل الفيلم بنجامين (براد بيت) هناك مماثل لها بل الأعقد منها في الواقع، منها حالة عرفت باسم المريضه بها (بروجيريا)، ورغم ذلك سرعان ما استبدل اسمها باسم بطل الفيلم ليكون ذلك أبلغ دليل على مدى تأثير السينما على الواقع حتى الطبي. ولنا أن نتصور كيف أثرت سينما الزمن على الحياة العلمية إذا ما عرفنا أن جامعة تينسي الأمريكية قد كلفت طلابها بمشروع مؤهل للتخرج منها، طلب فيه منهم التحديق بمجموعة من المجسمات المصغرة متخيلين أنفسهم داخلها كالأقزام يجلسون على كراسى حاملين أكوابًا من القهوة ليحددوا بعدها متى شعروا بمرور 30 دقيقة عليهم وهم على تلك الحالة داخل المجسمات! وكم كان الفضول يأكل المشرفين من الأساتذة على هذا المشروع بانتظار النتيجة، حتى خرجت بأن مقياس تسارع الوقت الذي شعر به الطلاب كان متناسبًا مع مقياس تصغير النماذج التي وضعوا فيها أنفسهم افتراضيًّا. وكان هذا البحث من الأهمية الكاشفة عن مدى ارتباط العلم بالسينما، إذ جرى أصحاب المشروع الجامعي به على استوديوهات هوليوود لإنتاجه بفيلم خيال علمي يناقش هذه المره فكرة إحساسنا بالوقت وبتلك الساعة داخلنا التي تشعر به. السينما المصرية والعربية وطبيعى ألا نقارن بين السينما العالمية وما قدمته من أعمال عن الزمن بما يمكن أن تكون السينما المصرية والعربية قد قدمته فى هذا الشأن، فالغرب بلا شك هو المهتم أكثر بعنصر الزمن من جميع النواحي، لكن بشغف كان البحث عن ماذا قدمت السينما لنا بعد شك فى أن يكون لدى مبدعينا من بحث فعلي فى الزمن، فكان من الجميل الممتع أن نجد قصة لأحمد عبد الوهاب أكثر من كتب روايات عن الخيال العلمى وقد تحولت إلى فيلم بنفس اسم الرواية التي صدرت ١٩٧٢ بعنوان "قاهر الزمن"، وبفيلم من إنتاج ١٩٨٧ لمحمد العدل سيناريو وحوار لنهاد الشريف ومخرج مثل كمال الشيخ، الذى طالما قدم ما هو غير متوقع.. ويدور الصراع بالفيلم بين العلم والقيم الإنسانية وعلاقه هذا بالدين والجهل والتخلف، إذ كشف الفيلم بشكل مبكر عن هذا التوجس المجتمعي من البحث العلمى في مجال الطب والذي نظر له البعض على أنه يمكن أن يؤدي إلى الإلحاد والكفر، فأي جديد لدى العامة يدخل في الغيبيات ومشيئة الله. وبهذه العلاقة الجدلية المتوترة بين العلم والدين من خلال الزمن يطرح الفيلم فكرة تجميد المرضى إلى حين موعد اكتشاف دواء شاف لهم، وكم كانت النهاية موحية ومثيرة بفتحها باب التنبؤ بهذا الجهل الإرهابي المسيطر على تفكير حتى بعض الأطباء، فيكون حريق المعمل الطبي بالطبيب الذى يجرب أبحاثه بشكل خفي على مرضاه على يد طبيب مثله، لنكتشف حجم الصراع بين العلم المحرم أو غير المشروع وبين الجهل الذى يحرم الإنسانية من أي تقدم، فيخرج الأبطال نور الشريف، آثار الحكيم، خالد زكى، الذين تم إنقاذهم من الحريق الذى أشعله حسين الشربينى فى الطبيب جميل راتب، كتابًا بعنوان (الخلية الحية - ١٨٠ تحت الصفر)، على خلفية لمشهد عن القاهرة سنه ٢١١٠. وللحق فإن السينما العربية لم تحرمنا من فيلم عن الزمن ولو وحيد، وكانت المفاجأة أن يكون فيلمًا فلسطينيًّا بعنوان "الزمن باق"، ليكون عنصر الزمن على استحياء وبإمكانيات بسيطة قد شغل الفكر العربي ولو بالقليل.