بالرغم من أن مفردة "ثورة" تثير اليوم الكثير من مشاعر الاضطراب والقلق لدى الكثيرين لما عانته مصر من إحداثيات خلفتها انتفاضة يناير التي عفت فيما بعد بالثورة البيضاء لاسيما في تحليلات السياسيين والنشطاء، إلا أن مفردة "الثورة" تبدو اكثر إيجابية والوطن في مرحلة التعافي الحقيقي الراهن، وما نعنيه بكلمة الثورة تقتصر على الشأن الثقافي النهضوي، الأمر الذي يقف بجانب إسهامات الدولة الاجتماعية والاقتصادية للارتقاء بهذا الوطن العظيم. وإذا كان النظام السياسي المصري قد نجح بالفعل وبدرجة تشارف امتياز العمل في تحقيق منجزات مادية ممكنة وملموسة مثل قناة السويس الجديدة، ومشروعات الزراعة المتميزة بالفرافرة، وبالمنشآت الإسكانية التي بدت متوافرة بصورة ملفتة، وأخيرا المنجز الحضاري المتمثل في العاصمة الإدارية الجديدة، فإن هذه المشاهد بنجاحاتها تنبغي أن تنعكس على فعاليات ثقافية واضحة تسهم في زيادة وعي المواطن بوطنه، وإظهار القدرة على التحامه بقضاياه المصيرية والحتمية وخصوصا في أثناء الحرب على الإرهاب، هذه الحرب التي لا يمكن أن ننكرها، كما أننا لا نستطيع الفكاك من محاولات العنف والإرهاب الممولة من الداخل قبل الخارج والتي تستهدف تقويض الوطن العظيم. والثورة الثقافية أكبر من احتفالية أو منتدى ثقافي يحضره النخبويون فقط، بل ينبغي أن تتبنى الدولة الثقافة كأسلوب حياة، بمعنى أن تمتد منتديات الشباب المصرية والعربية والعالمية إلى مشاركات ثقافية تواجه عبث الشارع وفوضى الفكر، وخصوصا أن الشباب المصري الذي شارك في هذه المنتديات كان أجمل وأعظم سفير لمصر أمام العالم، هذا الشباب الرائع الذي بدا لي وللجميع صورة حية لثقافة عميقة تمتزج فيها أصالة الماضي وحداثة الواقع واستشراف المستقبل، الأمر الذي ينبغي أيضا على الدولة أن تستغل هذه المشاهد المتميزة والجميلة في الترويج للثقافة الوطنية الأصيلة. ويكفي أن اخبر القارئ الكريم أنني منذ تولي ملف محو الأمية وتعليم الكبار بجامعة المنيا منذ أكتوبر الماضي تعاملت ولا أزال أتعامل بشكل يومي مع طلبة وطالبات جامعيين يجسدون الصورة المثلى لحب الوطن، ويظهرون حماسة وتفاعلا وإيجابية وهم يقومون بخدمة شريفة وعمل جليل ألا وهو محو أمية المواطنين بصورة علمية وبطريقة أكثر إنسانية، هؤلاء بالفعل يجب أن تعمم سلوكاتهم ونقلها إلى الشارع الذي ينبغي أن يكون أكثر حضارة ومدنية. إن الثقافة في مصر الآن تحتاج إلى ثورة حقيقية لا تشبه الانتفاضة الشعبية التي قامت في يناير منذ ثماني سنوات، ولا هي بحاجة إلى تصحيح للمسار، ولكن ثورة تشبه ثورة يونيو التي استطاعت أن ترجع الوطن لمكانته الصحيحة رغم المصاعب والمتاعب التي تواجهها مصر منذ نجاح الشعب في عزل الجماعة التي انفردت بالسلطة وتحكمت بصورة مخيفة في مفاصل الدولة وأواصلها أيضا. ولكن مصر تعيش أزمة ثقافية حقيقية ولا يمكنني اللهاث وراء اللاهثين خلف مقولة إن العصور الثقافية المنصرمة كانت ظلامية ومتخلفة وغير ثقافية، فعشرات الأقلام وعشرات السلاسل الثقافية ومئات الفعاليات كفيلة بأن تثبت بأن عصور الثقافة منذ الزعيم الراحل جمال عبدالناصر كانت تسير بخطى راسخة بدليل أن مصر كانت لها ريادة العالم العربي على المستوى الثقافي الذي يشمل وسائطه الإبداعية والفنية والموسيقية والفكرية. إن مشكلة الثقافة المصرية ووزارتها المختصة أنها تتعامل مع المواطن الذي يبدو مثقفا أنه صوب التهيئة بالفعل لتلقي المنتج الثقافي الرسمي الذي تقدمه الوزارة على اعتبار أنه مر بمراحل تعليمية مختلفة جعلته على استعداد لقبول أطروحات الوزارة الثقافية من إبداعات شتى. فبالرغم من حرص الدولة والنظام الأمني في رصد كل محاولات جماعة الإخوان المنحلة بحكم القانون والعزل الشعبي لها في الثلاثين من يونيو الأحمر 2013 ثورة المصريين الشعبية، فإن الجماعة هي المثال الأنموذج لمفهوم الثقافة العميقة وهو الأمر الذي لابد أن تفطن له أنظمتنا الأمنية والسياسية على السواء، فمخطئ من يظن أن الإرهاب فقط مفاده إشهار السلاح في وجه المدنيين، أو إعلان المواجهة المسلحة في وجه الوطن، لكن الجماعة وفق منطلقاتها التاريخية تؤمن بفكرة التخطيط الطويل والتنفيذ الأطول وهي التجربة التي مارستها الجماعة خلال ثمانين سنة انصرمت. وهذا يتطلب من النظام السياسي الحالي أن يعي لهذه المسألة ويدرك حتما أن مواجهة الجماعة المنحلة أو كافة التيارات الفكرية الراديكالية المتطرفة ينبغي أن تكون ثقافية وعبارة عن ممارسات تخاطب العقل من أجل تصحيح الوعي. والمتربصون بالوطن من أنصار ومريدي الجماعة ينتهزون أدنى فرصة فيما يتعلق بأزمة تعتري الدولة من زيادة أسعار أو ظهور قانون جديد يرتبط بحالة المواطن الاجتماعية أو الاقتصادية لترويج الكراهية والامتعاض تجاه الدولة، وهي سياسة قديمة جدا انتهجتها الجماعة وأعلن عنها وأفصح كل من تمكن من الفكاك من أسرها وقام بمراجعة أفكاره فتخلى عن مبادئ وأفكار الجماعة التي بحق تمثل جوهر الدولة العميقة. ويكفي للمواطن المصري أن يتابع بصورة يومية للبرامج التلفازية والإذاعية التي تنصب العداء لمصر لتعرف أن تلك الوسائط الإعلامية تنتهز أية فرصة ممكنة لإظهار مصر بصورة مشينة، وهذا ما وجدناه أيضا في التناول الإعلامي للحادثة غير الحقيقية عن فتاة الأزهر ونشر أخبار تسئ للوطن قبل المواطن.