كثيراً ما يروق للمخرج السينمائي أحمد فؤاد درويش توظيف اللوحات التشكيلية لبعض الرسامين الكبار لتأكيد وحدة الفنون، وبيان العلاقة بين التشكيل كلغة فنية تعبيرية والسينما كلغة تصويرية حية تقوم عليها فكرة إدماج الفنون السبعة داخل إطار واحد، وللمخرج تجارب متعددة في هذا الخصوص، فهو صانع فيلم الفنان التشكيلي حامد ندا صاحب اللوحة الشهيرة المرأة والديك والسمكة، التي استغلها درويش ببراعة في استخلاص المعنى الإنساني المشترك بين اللوحات التشكيلية الصامتة والرؤية السينمائية الناطقة. وقبلها كانت إبداعاته الأخرى في فيلم «وجوه من القدس» عن أبطال وشهداء المقاومة الفلسطينية، دفاعاً عن قضيتهم العادلة. وفيلم «كرنفال» عن الصراع العربي الإسرائيلي، بخلاف ما أنجزه من سلسلة أفلام الفراعنة وجهوده المضنية لتوثيق الحضارة التاريخية الممتدة لسبعة آلاف سنة، فنحن بصدد سينما من نوع آخر لا تستهدف الربح، وليس في قاموسها حسابات المكسب والخسارة، ولذلك فإن أي محاولات أخرى من هذا النوع لا بد أن تؤخذ في الاعتبار، كهذه المحاولة الجديدة التي تحكي سيرة الفنان التشكيلي محمد حجي، من خلال لوحاته التشكيلية وتبصر بدوره الثقافي والسياسي في ضوء إيمانه بالفكر القومي العروبي، تأثراً بما كان رائجاً وسائداً في مرحلة الخمسينيات والستينيات، إبان حالة الزهو الفكري والفني وازدهار التيارات التشكيلية التي انتمى إليها، وانضوى تحت ألويتها فنان العرب، كما هو معنون في الفيلم الذي استغرق عرضه 60 دقيقة على غير المتبع والمألوف، فالزمن أطول بكثير مما هو معهود في الأفلام التسجيلية والوثائقية. يقدم المخرج أحمد فؤاد درويش مقدمة استهلالية فاتحة للشهية، بأغنية للمطرب محمد فوزي ذات طابع مبهج، تعبيراً عن حالة الاحتفاء بالفنان محمد حجي صاحب السيرة والمسيرة، ثم يبدأ في عرض اللوحات المختارة، في إشارة للإبداع التشكيلي المتميز، الذي صار عنواناً لصاحبة وثرياً في مضمونه وتنوعه، فنرى مقاصد الفنان في لوحاته وخطوطه وألوانه، ونستشعر اهتمامه وانتماءه للبيئة العربية بكل خصوصياتها وطبائعها الجغرافية والفنية والإنسانية، وتتأكد لدينا موهبة خاصة لدى الرجل الذي طاف كل ربوع الوطن العربي، بحثاً عن المختلف والجديد، واللافت للنظر والباعث على التأمل والتفكير في الإبداع الرباني والفطري للطبيعة والبشر والحجر والحيوان والنبات، وكلها مثيرة للإعجاب ومحرضة على الابتكار والمحاكاة في ما يعمق الإيمان بقدرة الخالق وجمال المخلوقات. وفي الأجواء الإبداعية تأتي محاولة تضفير الأغاني والموسيقى والألحان، مع خطوط وتعاريج اللوحات التشكيلية، لإبراز صوت فريد الأطرش في واحدة من أجمل ما لحن وغنى «بساط الريح» ليكون التعبير لائقاً برحلة الفنان التشكيلي حول الوطن العربي، ولكن رغم حالة الانسجام العام التي حققتها الأغنية، إلا أنها بدت كأنها حالة خاصة وعزفاً منفرداً بعيداً عن سياق الفيلم، الذي أراد مخرجه أن يجعل من الموسيقى والغناء دعماً حقيقياً لفكرته، فجاءت الجرعات زائدة عن الحد المطلوب، فحدث نوع من التشويش، زاد من الإحساس به ما اعترى الفيلم من أوجه الخلل الأخرى في الإيقاع والمكساج، والتعليق الشارح والمفسر للصور والشخصيات المرسومة، وهي الغنية بذاتها وملامحها وتكوينها عن أي شرح، ففي تقديري أن الرؤية العامة كانت واضحة وبليغة في اتصالها بسيرة الفنان وتاريخه ومشواره، لولا الإضافات المبالغ فيها والمساحات المطولة التي أهدرت في الحديث عن جوانب فرعية أخذت الشكل الدعائي لبعض الدول التي زارها حجي، واستوطن فيها لفترة قصيرة أو طويلة، بدون أن تكون لذلك ضرورة فنية تستحق ما تم تبديده من الزمن والجهد، فكان في الإمكان الاكتفاء بالإشارات العابرة الدالة والموجزة والاختصار في مدة الفيلم لنحو نصف ساعة فقط بدلاً من ساعة كاملة، غير أن تقديم اللوحات بغير تفسير مقيد للوعي والرؤية ومحدد للأطر والأفكار، كان بالقطع سيصبح في صالح العمل ويكسبه المزيد من العمق ويجعله بمنأى عن السطحية والمباشرة. أما ما يحسب للمخرج وصاحب الفكرة والسيناريو أحمد فؤاد درويش فهو ذاك الحرص المتناهي على تقديم الثقافة التشكيلية في قوالب سينمائية لمحو الأمية الفنية لدى الأجيال التي لم تهتم بالقراءة ولا الكتابة، ولا تعرف شيئاً عن رموز الحركة التشكيلية ولا نشأتها ولا المدارس التي تنتمي إليها، وهي مسؤولية جسيمة يتحملها درويش طوعاً ويناضل من أجلها وينفق عليها من حر ماله بدون انتظار الدعم من جهات رسمية أو جمعيات أهلية.