اعتبر النقاد رواية «رحمة» للكاتبة توني موريسون واحدة من أفضل عشر روايات صدرت في سبتمبر 2008. وطبعت في كل من نيويورك وتورونتو. في هذا العمل القصير نسبيا تعود الكاتبة الأميركية الأفريقية الأصل توني موريسون إلى موضوعها المعروف، إلى الحفر في بئر العبودية المظلم ونبش العذابات من جذورها، انطلاقاً من نقطة بدايات التاريخ الحديث الأميركي، الرحلة ما بين أفريقيا والشمال الأميركي. تنقّب صفحات تاريخ بدايات ما يسمى اليوم بأميركا، مازجة الخيال بالاحتمالات الممكنة لفهم آلية تكون هذا المجتمع الذي صار القوة الأولى في العالم اليوم. يقول الناقد الانكليزي المعروف هارولد بلوم في معرض تقديمه لكتاب نقدي خاص بابداعات توني موريسون: توني موريسون روائية تملك موهبة غير عادية. يمكنني أن أقسم نتاجها إلى مجموعتين. الأولى: العيون الأشد زرقة، سولا، أغنية سليمان. والمجموعة الثانية الأحدث: جاز، فردوس. ومن الملاحظ أن المجموعة الثانية تعكس بقوة توجه موريسون وتأكيدها على أنها أميركية أفريقية، قومية، فمنستية ماركسية. هذه الأعمال الأخيرة تحمل ايديولوجيا وموقفا سياسيا قد لا يتوافق حرفياً مع الشخصيات والأحداث. ولكن موريسون تقول في حوار معها حول الكتاب: ليس هناك كاتب وكتابة بلا سياسة. «رحمة» عنيفة وقاسية ومتشعبة. متعددة الطبقات والأصوات، تدع القارئ في حيرة وخاصة في صفحاتها الأولى، ثم تبدأ تدريجاً في الكشف عن أعماق الشخصيات والأحداث في حياة كل فرد، بالعودة إلى بدايات القرن السابع عشر، بداية الهجرة من كل صوب وتشكيل هذه الرقعة التي كانت مشاعاً كأنها «لم تطأها قدم منذ نوح»، فكانت البدايات مع استقدام العبيد للعمل كمأجورين في هذه الأرض. تقول موريسون في حوار صحافي تلفزيوني معها حول الرواية: بالتأكيد أن جميع الحضارات عبر التاريخ، اليونانية، الرومانية، الفرعونية وغيرها قامت على استغلال الطاقة العاملة واستعباد العمال، ولكن الشيء اللامعقول الذي حصل في أميركا هو هذا الربط الجائر ما بين العرق والعبودية. وهنا تقصد العرق الأسود وهذا ما حاولت أن تضع يدها عليه في الرواية. خذ ابنتي الشخصيات متعددة الأصول والأعراق تجد نفسها مجبرة على العيش في بيت واحد في مرزعة جاكوب فاراك، وتجد نفسها مجبرة على التصرف كعائلة، رغم كل الاختلافات بين هذه المجموعة من البشر الذين وجدوا انفسهم ضحية صفقات لا علاقة لهم بها، وجدوا انهم سلع متبادلة من أجل ايفاء ديون مترتبة على المالك الأول، أو على أفراد الأسرة. هنا الأم البرتغالية الملونة تقايض ابنتها ايفاء للدين، والأم نفسها، تمت مقايضتها في البداية من قبل سيدها في افريقيا، وينسحب ذلك على زوجة مالك المزرعة «ريبيكا»القادمة من انكلترا، مثخنة بذاكرة سوداء شاهدت مراحل العنف والقتل في تلك الحقبة، تجد نفسها بلا خيار لتصبح زوجة صاحب المزرعة. الرق يسود على الجميع، بمن فيهم «لينا» الهندية التي شهدت دمار قريتها وأبناء عرقها، و«سورو» المختلة عقلياً. هنا يتعادل موقف المالك الذي يتصرف بحيوات العبيد الذين في خدمته، مع موقف الأم والأب الذي يتخلى عن فلذة كبده، ولكل مبرراته. الأم التي نعرف عنها بأنها كالقطة تدافع عن ابنائها، هنا ترجوهم أن يأخذوا الابنة حين يأتي صاحب المزرعة للمطالبة بديونه. «رجاء سنهور، ليس أنا، خذها، خذها، خذ ابنتي» ص 26، وحين وافق الرجل على تضرعاتها «المرأة التي رائحتها ثوم انحنت على الأرض وأغمضت عينيها» تشكر ربها. ثم كتبوا ورقة وافقوا فيها على أن ثمن الفتاة «فلورنس» ،15 باوند انكليزي، أو ما يعادله من التبغ. وكانت حينذاك دون العاشرة من العمر. فلورنس تكتشف أهمية الحروف والكلمات والكتابة. في بداية القصة تقول: لا تجزعي. لن يؤذيك ما أقوله. على الرغم مما مررت به...ما أخبرك به، يمكن اعتباره اعترافا اذا شئت ولكن الأشياء تبدو مختلطة لأن الذاكرة ليست مخلصة، والمخيلة تلعب دورها. البنت تتذكر، تتراءى لها صورة أم تحمل ابنها الصغير وتقف أمام الباب وفي جيب مريلتها حذاء الطفلة. الطفلة فلورنس التي كانت من صغرها مولعة بالأحذية والكعب العالي. لم تكن قدمها الصغيرة تطيق عراء الأرض، حتى وان كان الطقس حارا. هذا ما جعل الأم قلقة من رغبات ابنتها الطموحة والتي ستكبر ولن تجد أمها قادرة على تحقيق حلمها، بل ستكبر ولن يرحمها الآخرون، وهم يعاينون أنوثتها تنضج سريعاً. عنوان الرواية مستمدٌ من موقف هذه الأم التي وجدت خلاصاً بمجرد قبول صاحب المزرعة أن يأخذ الابنة، رحمة بالطفلة والعائلة. الأم اعتقدت أن هذا هو السبيل الوحيد الذي قد يمنحها حياة أفضل مما لو بقيت في جوار أمها الفقيرة، العبدة التي تعرضت للاغتصاب وللبيع وانجبت ولدين لا تعرف أباهما. إنها أميركا، وإن قلنا ان تاريخها «أسود» فسنجد أن مفردات اللغة تمارس تمييزاً عنصرياً لونياً. فلنتوقف على وجه الخصوص عند قراءة حال الأم والابنة في هذا القص الصادم والمركّب، المتقطع، المحمول على وهج لغة شعرية وتعرف إلى أين تذهب. تنقشع المواقف في ختام الرواية القصيرة نسبياً. يحضر بوح الأم وهي تشرح موقفها في رسالة مؤثرة إلى ابنتها، ولكن الرسالة لن تصل. كما أن صوت الفتاة لن يصل إلى الأم من خلال سرد يكشف انفعالات الروح ومواجعها. تقول الأم في نهايات الرواية لابنتها، بأنها تعرف ما ينتظرها وتعرف مزاج الرجال، تعرف أنها لا تستطيع أن تأتمن عليها لحظة بعد أن بدأ ثدياها بالظهور باكرا وسريعا. حتى الأولاد السود الذين يعملون في نفس الرقعة لا يمكنها أن تأمن شرهم ورغبتهم فيها. وتقول«حقيقة لا أعرف من هو والدك. كانت عتمة الليل، أتوا واخذوا ثلاث نساء منا... لم يكن هناك وقاية. «أن تكوني امرأة في هذا المكان يعني ان تكوني جرحا مفتوحا لا يندمل. حتى لو يكن هناك ندب، فالوجع يمتد إلى الأعمق» ص 163. رحبت بالحيتان كما تصف الأم ما حصل في الخطوة الاولى في درب العبودية فتقول: «قدموا واشتبكوا مع رجالنا، أحرقوا البيوت، أخذوا الذين لم يتمكنوا من قتلهم. عدة مرات تم الاتجار بنا، نقلنا من مكان إلى آخر. كانت أعدادنا تتزايد. هناك التقينا برجال اعتقدنا أنهم مرضى أو موتى. ولكن يبدو أن هذا لون جلدهم الذي أصبح أبيض التبس علينا. الرجال الذي كانوا يقودوننا ويتاجرون بنا، كانوا سودا. وأكدوا لنا أن «الرجال البيض لن يأكلونا» فصلوا بيننا وأخذونا كل إلى جهة، إلى بيت يسير فوق الماء. كانت الحيتان حول القارب تنتظر وجبة. «أنا رحبت بالحيتان التي تدور، ولكنها تجنبتني. كأنّ الحيتان كانت تعرف أنني أفضل أن يقرضوا بأنيابهم السلسلة التي في عنقي، في رسغي وفي كاحلي». حين انطلق القارب، بعضنا قفز إلى الماء... هنا لا سبب ولا قانون لحدوث أي شي، من يعيش ، من يموت؟ إنها مسألة واحدة، أن تعيش على أوساخك، أو تعيش على وسخ الآخرين.....وصلنا الى بربادوس. هناك وجدت أن رقصي، ثوبي، لغتي، عاداتي... كل شيء كان مخلوطا بلون جلدي. لقد أخذوني من حقول قصب الشكر في قارب إلى الشمال كي أعمل في حقول التبع. وقبل العمل كان يجب أن يعاشروني جنسياً، أخذنا رجال في العتمة، وبعد ذلك أعطونا برتقالة. وفي كلتا الحالتين، لا بأس، كانت النتيجة أنت وأخاك. وتضيف «أردت أن يأخذك الرجل الطويل، فقد ينظر إليك ك«طفل انسان» كنت أبتغي حصول المعجزة. ثم قال نعم، وكانت المعجزة. رحمة قدمت من قبل انسان. جلستُ على ركبتي، طويلاً في الغبار، وحيث سيبقى قلبي هناك كل ليلة وكل يوم، حتى تفهمي ما مررت به وما أردت إخبارك به. آه، يا فلورنس، يا حبي... واسمعي...». لكن فلورنس التي عشقت الحرف تعيش حزنها أيضا وتقول: شيء واحد حزين سيبقى. كل هذا الوقت لم أستطع أن أعرف ماذا كانت تقول أمي. وهي أيضا لم تكن لتعرف ماذا أردت أن أخبرها» (ص 161). ليست هذه أول قصة تكتبها توني موريسون عن الأم التي تقتل أو تبيع أولادها لتجنبهم شر العبودية والفقر. لكنها في قصصها لا تتوقف عند مصائر النساء فقط، بل تنخرط في تعرية المجتمع بكل طبقاته، رجاله ونسائه، أفراده السود والبيض، والملونين. يختلط بين سطورها العنف بالكره، بالحب، وبالأمل. موريسون، المرأة السوداء الأولى التي حازت جائزة نوبل عن روايتها الأولى «العيون الأشد زرقة» لم تتردد في الإفصاح عن إعجابها العالي برئيس أميركا الأسود الأول، باراك أوباما في حوار متلفز معها. كما تشيد بموهبته في كتابة السيرة. ومن الملاحظ أن هذه الرواية كان لها وقع واهتمام مميز إذ طرحت في الأسواق تزامناً مع حملة الانتخابات الأميركية وفوز باراك أوباما. ---- (كاتبة سورية مقيمة في تورنتو)