كما أن لروما وفلورنسا فنانيهما و «ميسينيهما» ومشجعيهما (مثل عائلة مديتشي) في عصر النهضة الإيطالي، كان تنتوريتو كذلك نجم عصر النهضة في الرسم في فينيسيه (البندقية) وذلك خلال القرن السادس عشر. لم يكن يقلّ أصالة وتفرّداً وإشاعة عن الموسيقي فيفالدي. فعام 1550 يشهد تتويج أول رسام في المدينة العائمة، و رمزاً لازدهارها التجاري والاقتصادي الذي يبرر انهمار الطلبيات الفنية عليه. ولد فيها عام 1518 وتوفي فيها عام 1594. يقام إذاً المعرض لإحياء ذكرى مرور خمسمئة عام على ولادته. يقيم متحف اللكسمبورغ في باريس معرضاً استثنائياً لمراحله الأولى التي تتفوق في حريّتها وتجديداتها على نمطية أعمال بقية حياته، هي التي كان خلالها نجاحه الأسطوري سر شروده عن الباروك نسبياً باتجاه سهولة او تسّرع إنتاج الطبليات: سواء الكنسية منها أو الإسطورية اليونانية أم الدنيوية أم البورتريه أو الديكوراتيف (العاريات)... مئة لوحة عملاقة من أشهر لوحاته تجتمع لأول مرة ما بين السابع من آذار (مارس) وأول تموز (يوليو) 2018. إذا كان تنتوريتو مثل تيسيان وفيرونيز وحتى كارافاجيو يعتبر ضمن النجومية الثانية الممثلة لعصر النهضة بعد الثلاثي الاستثنائي: ليوناردو دا فنيشي وميكيل آنج و رفائيل، فسيرته الفنية وموروثه من اللوحات والمنحوتات يعتمد على قيم تقاليد هذا العصر الوضّاء، والنموذج المحتذى خلال قرون ما بين الباروك والكلاسيكية المحدثة لآنغر ودافيد متقدماً ضمن حركة الرومنطيقية من جيريكو إلى أوجين دولاكروا. ولكن ما هي المواصفات التي تجعل فن تنتوريتو جزءاً أساسياً من عصر النهضة؟ لعل أبرز ما يميز فكر عصر النهضة (بعد ظلامات العصور الوسطى وسيطرة التكفير التعويذي و «الألشيميك» والحرق ومحاكم التفتيش وحصاد الطاعون للملايين) هو التخلص من كابوس الإنطوائية الظلامية الدينية، وبداية تأسيس العلوم الوضعية و العودة إلى حكمة العصور اليونانية والفلسفة الإثينية الإسبارطية. هو ما ندعوه باختصار النزعة «الإنسانية» لأن فلسفتها تعتمد على مركزية الإنسان في الوجود ونسب جسده الذهبية واستبدال الاضطهاد اللاهوتي بالأساطير المؤنسنة لآلهة جبل الأولمب، بقيادة جوبيتر. هناك إذاً إيمان عميق بالعلم والعقل وحكمة الطبيعة ومصادر طاقتها من هواء وماء ونار، أو التحليل الدقيق المنهجي للتشريح البشري ثم وضع منظور ألبرتي للتكوينات الحضرية وهروب الخطوط إلى خط الأفق، لدرجة أن الموضوعات الملحمية الرحبة المستقاة من سعة جدران الكاتدرائيات والقصور وقبابها اصطبغت بالصبغة الحسية المحبة للحياة والعقل والجسد الإنساني الذكوري والإنثوي على السواء، للمصارعين وصانعات غزل النسيج (مثالها بنيلوب الزوجة المخلصة لأوليس المسافر بمركبه أبداً في عباب الأساطير وعرائس البحر). تكوينات تنتوريتو سواء في موضوعاتها الدينية أم الدنيوية ذات صبغة ميتولوجية بألوان مرحة سريعة متحركة غير سكونية منضبطة المناظير. لا يفسر عنوان المعرض «ولادة عبقرية تنتوريتو» سوى الإحساس العام باستثنائيته مقارنة بمعاصريه. هو ما سبب له غيرة مربكة وحسداً مزمناً من منافسيه. يذكر المؤرخ فاساري امتيازاته عن عادات معلمي عصره مما جعله مجدداً مستشرفاً أحدث الأساليب المستقبلية، مثلاً طزاجة اللمسة اللونية، وعجائنها التي نادراً ما يخلطها على الباليتا يحافظ بذلك على إشعاع الأرضية البيضاء، بخاصة أنه يختزل التفاصيل لمصلحة سيولة اللون وعربدة الفرشاة المرتجفة، ليحافظ على رفيف الصباغة وذروة إشعاعها الضوئي في عصر الكلاسيك والتفصيل الواقعي والصقل بفراشٍ ناعمة كالحرير. الواقع أن ما أنقذ تجديداته هو أنه لم يعانِ من ضغط أو ضبط أو قمع القواعد الأكاديمية لأنه لم يدرس التّصوير، وإنما كافأه أمير فينيسيه بمنحه حرية الاطلاع على محترفات أوروبا للاطلاع. تبدو جماهيره المرحة والعارية غالباً أقرب إلى ممثلي المسرح، وهو يستشرف بهزل موضوعاته وطزاجة ألوانه التيارات التالية بخاصة الرومنطيقية ثم الرمزية، مع ذلك فقد كان يمتصّ رحيق استلهامات عبقرية معاصريه ومناهجهم بخاصة تيسيان (المنافس الأول) ثم فيرونيز ثم رفائيل في عمائره المقوسة والمقبّبة ومناظيرها المشهدية. نعثر على موضوعات لديه رومنطيقية مثل «العاصفة»، وهو يوسم بصيغة مجازية بأن فرشاته لا تفارق شفتيه (فمه)، إشارة إلى غزارة إنتاجه وخصوبة الطلب على لوحاته، مثل روبنز. من اللوحات التي أثارت الانتباه في المعرض صورته في المرآة (الأوتوبورتريه) غارقاً مثل كارافاجيو في دياجير الظلمة، على رغم فيض النور على وجنتيه. ثم لوحة شمشون ودليلة وهي تقص شعره ليفقد قوته الأسطورية، وتبدو معالجة ثوبها باللون الزهري والأصفر أقرب إلى أسلوب الانطباعيين في استخدام الألوان مباشرة من دون مزج. ويظهر تأثير تيسيان في لوحة «آدم وحواء». أما غالب الموضوعات السماوية ومنها معالجة الغيوم، فتبدو أقرب إلى فريسكات ميكيل أنج وكذلك منحوتاته المباشرة . لعل أشدها قرباً من عبقرية تجديداته هي لوحة «صعود عبقرية شاب في القبة السماوية» وهي أقرب إلى التجريد منها إلى السيميولجية التأليفية. لا شك في أنه يمثل العصر الذهبي لفينيسيه.