في السادس والعشرين من شهر يناير/كانون الثاني الماضي 2018 حلت الذكرى الرابعة لرحيل الشاعر المكسيكي خوسيه إميليو باشيكو (1940 2014) الذي يعتبره الكتابُ والنقادُ المعاصرون في العالم الناطق باللغة الإسبانية من كبار الشعراء المكسيكيين في العصر الحديث، وهو معروف بإسهاماته الوافرة في الحقل الإبداعي، سواء في الشعر أو النثر على حد سواء. عندما فاز باشيكو عام 2010 بجائزة سيرفانتيس المرموقة في الآداب الإسبانية (التي تعتبر بمثابة جائزة نوبل في هذه اللغة) أشيع عنه ظلما، وبهتانا أنه كان قد صرح قبل حصوله على هذا التكريم بأنه من أحسن الشعراء في أمريكا اللاتينية، إلا أنه فند تلك المزاعم قائلا: «كيف يمكنني قولَ ذلك؟ فأنا لا أطمح أن أكون حتى أحسن شاعر في الحي الذي أقطنه»، وأردف قائلا ومداعبا: «لا، لا نسيتُ أن أقول إنني جارٌ في مدينتي للشاعرالأرجنتيني خوان خيلمان». وعن باشيكو يقول بلديه ومواطنُه الكاتب المكسيكي الراحل كارلوس فوينتيس: «إن الأعمال الإبداعية لخوسيه باشيكو هي أعمال ذات صبغة عالمية، وهو يشارك بها جنبا إلى جنب في الأمجاد الأدبية مع العديد من كبار الشعراء على امتداد العصُور». ويعتبر بعضُ النقاد قصيدته «الخيانة العظمى» من أعظم قصائده في الإبداع الشعري المكسيكي، وهي مدخل أساسي للغوص في تاريخ المكسيك وفهمه، والتعرف على المشاعر المتناقضة لدى العديد من المكسيكيين». الليل عناصرُه وسكونُه منذ ظهور كتابيه الأولين «عناصر الليل» (1962) و»سكون الليل» (1966) أبان خوسيه إميليو باشيكوعن نبوغٍ مُبكر ومقدرةٍ فائقة، وتفوقٍ في الإبداع الأدبي شعرا ونثرا، وهكذا يصف الناقد المكسيكي إيفراين وينتاس هذين الديوانين بأنهما «مكتوبان بلغة نابضة، وعاطفة متأججة، وعمق كبير». ويلاحظ هذا الناقد أن الشاعر باشيكو قد فاجأ الأوساط الأدبية في ذلك الوقت، وهو بعد شاعر مبتدئ، خاصة في ما يتعلق بالمواضيع التي كان يختارها لمضامين شعره، فضلا عن جرأته، وتعريته لحقائق الحياة المرة، يُضاف إلى ذلك جمالية صُوَره الشعرية، وأخيلته المجنحة، يقول باشيكو: إن الحمامة الرمادية / تنفُضُ عنها سكونَ الصمت / فيشع طيرانُها العالي /في الفضاء الفسيح . فضلا عن عنصر التماثل الثقافي في الشعر الأمريكي اللاتيني المعاصرعنده حيث يقول :أنتَ تُدرك جيدا /أن أحدا لم يعرف يوما قدرَه / كل ما هو آتٍ مجهول / فلا تستفسر أبدا التكهنات. ونجد في شعره المبكر كذلك تشابها، وتقاربا، وتماثلا لإطنابات الشاعر الفرنسي المعروف أرثر رامبو وتخميناته المنبسطة حيث يقول: في الوقت الذي كنتُ أنجرفُ فيه /مع الأنهار الباهرة /أيقنتُ أن الذي كان يجرفن / هما اكتئابي وتوجسي. وفي كتاب باشيكو: «لا تسألني كيف يمر الزمن» الصادر عام (1969) نجد شعره يزداد ثراء ونضجا، وتتميز تجربته الإبداعية بتنوع الصور الشعرية، وعمق مضامينها، وكان لا يخرج على الناس بشيء من شعره إلا إذا راجعه مراجعة جيدة، ونقحه تنقيحا دقيقا. إن شعر باشيكو حصيلة قراءاتٍ واسعة، وتجارب متعددة، حيث يتجزأ ويتفرع صوته الشعري في صيغٍ لغويةٍ متعددة، وأشكال بلاغية متباينة، وأقنعة مختلفة، وأصوات متناوشة في تحاورٍ وتشاجرٍ وتناوشٍ وعناد. إميليو باشيكو ومُعاصرُه أوكتافيوباث ويشير الشاعر المكسيكي الراحل أوكتافيو باث (حاصل على جائزة نوبل في الآداب 1990) في مقدمة كتاب «الحركة الشعرية في المكسيك إلى: «أن تجليات إميليو خوسيه باشيكو الشعرية تظهر في شكل تعامله مع اللغة، حيث نجدها عنده لغة هادئة واضحة، إلا أنها في الآن نفسه لغة موفية صاخبة». وفي ديوان باشيكو الآنف الذكر «لا تسالني كيف يمر الزمن» تبدأ مرحلة جديدة في شعره يصنفها الناقد المكسيكي خوسيه ميغيل أوفييرُو بأنها تتسم بالسخرية والتهكم، وبصراحة وجرأة في نقده ورؤيته للمجتمع، وأبياته مفاتيح سحرية يكتشف بها باشيكو عالمَه الشعري، ورؤاه البعيدة الغور، وتجعلنا نشعر في بعض تجاربه الشعرية أنه ينسلخ عن شخصيته الحقيقية في فنه، ويفضي بنا هذا إلى التفكير في شاعر إسبانيا الأندلسي أنطونيو ماتشادو في «يوميات معلم البلاغة والبيان» عندما تواجهنا في أشعار باشيكو شخصيات الوجه الظاهر، والمُحيا المتخفي للشاعر أي الوجه الحقيقي المتواري بين الواقع والخيال، أو الزيف والقناع. عالم باشيكو وفى كتابه «ترحلين بدون عودة» الصادر عام (1969) نجد باشيكو يصف حرفة الشاعر ويأسَه وخيبةَ أمله فيقول: إنه كمن يحرث البحرَ /ويكتب فوق الماء. وهو يكرر ويؤكد في السياق نفسه الصورة ذاتها عندما يقول: في ذلك العام كتبتُ عشرَ قصائد / عشرَ أشكالٍ مختلفةٍ من الفشل وفي كتابه «جزر الانسياق» (1975) نجد في شعر باشيكو غير قليل من الحقائق التاريخية والجغرافية، فضلا عن الغوص في سديم الطقوس، والأساطير القديمة في بلاده، وفي هذا الإطار يحاول الشاعر آسر الزمن الذي لا يرحم، ولا يلين بواسطة الكلمة الشعرية، كما يعهد إلى إعادة خلق الشعر داخل الشعر أي الاستشهاد أو ذكر شعراء آخرين في شعره .ويصف الناقد خوسيه ميغيل أوفييرُو شعرَ باشيكو: «أنه شبيه بشُعاع الشمس الذي يخترقُ الزجاجَ بدون أن يلطخه أو يخدشه». وفي شعره أبيات تعتبر علامات ثابتة مضيئة، وصُوى مرصوصة موضوعة في طريق الزمن، في حين أن له أشعارا أخرى تنمو، وتتحرك، وتتغير، وتتبدل من قارئ إلى قارئ، ومن زمنٍ إلى زمنٍ آخر، وهي ذات رمزية عميقة بعيدة الغور، يقول في قصيدته الشهيرة «التفكير الدائم في إيتاكا، أو النزول إلى إيتاكا: دائم التفكير أنتَ في «إيتاكا / النزول إليها هو قدرك المحتوم / ولكن لا تحاول استباقَ يومك /من الخير أن تنتظر أعواما طويلة أخرى / وعند نزولك للجزيرة / يكون الزمن قد سلمك للهرم / إلا أنك ستصبح ثريا / بما ستكسبه خلال رحلة الإبحار / بدون أن تنتظر بأن يأتيك الثراء / وهكذا فإن إيتاكا / وهبتك سفرية رائعة / فلولاها لما برحتَ مدينتك / ماذا إذن تريد أن تمنحك أكثرَ / مما حصلتَ عليه / إنْ لم تجد بها شيئا / فقد كسبت شيئا آخر / ها قد أصبحت عالِما بتجربتك / عندئذٍ سوف تعرف ماذا / كانت تعني لك أو بالنسبة إليكَ إيتاكا . وفي ديوان باشيكو «أعمال البحر» 1982 نجد العديد من الإشارات والتجارب حول رحلات وسفريات باشيكو، ليس في الحيز الجغرافي وحسب، بل والزمني، والخيالي كذلك، حيث تجاوز غير قليل من الشعراء والأدباء الذين أعجب بهم وبإبداعاتهم وحياتهم. كما أنه في هذا الديوان يتعرض للتجارب السياسية التي اجتازتها بلاده، بل إنه يتعرض كذلك للطبيعة والمظالم التي حاقت بها المكسيك، وبلاد الله الواسعة، ويخصص حيزا مهما في هذا الديوان لمدينته العملاقة مكسيكو، التي يقول عنها باشيكو: «إنها مدينة تبرئ وتُسامح الغراب، وتغيظ وتُغضب الحمامة». وفي كتابه «مدينة الذاكرة» ينأى باشيكو عن صيغة التبليغ التي تميز بها شعرُه، وبالأخص كتابه السابق، ويكسب صوته الشعري مغزى أكثرَ مرارة، وأشد مضضا، وأعمق موضوعية، حيث ستصبح الميزة الأساسية في شعره ولن يحيدعنها بعد ذلك: لم يعد أطفالنا يستمعون / أو يستمتعون بقصص السحَرة والجدات / من هوْل ما يحدث فينا وبيننا أحلامنا وحدها فقط / لم يلحقها بَعدُ الذل والهوَان /فأجملُ ما بقي في الإنسان / دمُوعُه. القصيدة… وقارئها ونختتم هذه العجالة عن هذا الشاعر المكسيكي في ذكرى رحيله بقصيدته الرائعة «القصيدة وقارئها» يقول فيها: ليس لدي ما أضيفه إلى ما تحمله قصائدي /لا يهمني التعليق عليها إذا كان لي أحد، فمكاني في التاريخ الآن، أو في ما بعد ينتظرنا جميعا الغرق / أكتب، وهذا كل شيء / أقدم نصف القصيدة / القصيدة ليست علامات سوداء على صفحة بيضاء / هي عندي موضع اللقاء / مع التجربة الغريبة / القارئ، القارئة / هما صاحبا القصيدة التي أرسم / نحن لا نقرأ للآخرين،/ بل نقرأ أنفسنا فيهم / الأمر يبدو شبيها بالمستحيل / أحد لا أعرفه / يمكن أن يرى نفسه في مرآتي / وإن كان هناك فضل في ذلك/ قال «بيسووا /» ٭ فهو للأبيات لا لناظمها / وإن كان، بالصدفة، شاعرا عظيما / فسوف يخلف لنا أربعة أو خمسة أبيات جديدة / محاطة بالمسودات / وآراؤه الشخصية / في الواقع، عديمة الجدوى / عالمنا غريب / في كل يوم يهتم الناس بالشعراء أكثر/ وبالشعر أقل / لم يعد الشاعر صوت قبيلته، /ذاك الذي يقول ما لا يقوله الآخرون / ما زلت أعتقد، / أن الشعر شيء آخر / هو نوع من الحب / لا يوجد سوى في الصمت / عهد سرى بين مخلوقين / بين مجهولين غالبا / هل قرأت يوما أن خوان رامون خيمينيث /٭٭ فكر منذ نصف قرن في إنشاء / مجلة كان سيطلق عليها المجهول» /كانت ستنشر نصوصا بدون توقيع / وتتألف من قصائد، وليس من شعراء / إنني، مثل المعلم الإسباني هذا، أتمنى / أن يكون الشعر مجهولا / ما دام جماعيا / إلى ذلك تتوق قصائدي ورواياتي / قد تقول: الحق معك / أنت الذي قرأت لي ولا تعرفني /قد لا نلتقي أبدا ولكننا أصدقاء / إذا راقتك أبياتي / ماذا يهم، أن تكون لي / أو لغيري / أو ليست لأحد / القصيدة التي أنت بصدد قراءتها / هي قصيدتك / تكتبها عند قراءتك لها! ..... ٭ من أبرز شعراء البرتغال (1888-1935). ٭٭ شاعر إسباني حاصل على نوبل في الآداب 1956،(1881-1958)