في ناس قالوا قتل في ناس قالوا مات في ناس قالوا فتح عتمة خياله وفات طلال حيدر المقهى الشعبي بالقرب من محطة "السيدة زينب" يبث أغنية محمد منير " نعناع الجنينه" ، أغادر محطة المترو، كل شيء على حاله كما لو أن المعركة التي كانت منذ أيام قليلة بعيدة من هنا، الباعة يفترشون الأرض عارضين بضاعتهم على المارة، المرأة السمراء ترش على الخس والبصل الأخضر والنعناع رذاذ الماء كي لا يذبل، أتابع سيري من تحت الجسر تلوح بقايا صور المرشحين للانتخابات النيابية، وعند أحد الزوايا صورة كبيرة للفنانة رجاء الجداوي مع إعلان زيت أو سمنة، حركة بين الداخل والخارج، خطوات يخطوها الجميع كالسائرين في متاهة ضبابية ، ثمة وجوم، وبقايا رائحة بارود ثقيلة، ربما من المفيد الآن استخدام كلمة " هدوء حذر" لوصف الأجواء بعد حالة من الرعب أثر تحول الشارع والمناطق المجاورة له بين عشية وضحاها إلى ساحة حرب بين ثوار التحرير وقوات الجيش. نظرة على الشارع المغلق في وجه السيارات تثير الأسى، القلق والرعب يسيطران على أهالى وسكان المنطقة ويبدو أنه دفعهم لتشكيل لجان شعبية لحماية ممتلكاتهم من اللصوص والبلطجية. الموت مراوغ، يعرف كيف يستدرج ضحاياه ، خطوات قليلة تفصل المسير عن الشارع الذي دخل تاريخ مصر المعاصر بعد شارع محمد محمود،فقد توزعت جثث الشهداء بين الشارعين. خبر مقتل الطبيب الشاب علاء عبد الهادي في أحداث شارع القصر العيني لا تبارح الذاكرة،وجهه أبيض مبتسم، عينان تبرقان بالتفاؤل، لكن لن يمكنني التأكد من هذا أبدا ؛ لأني أنظر للصورة بعد انتهاء الحياة. يا لقدرة خطاف الأعمار على المجاذفة بتحدي روح الطبيب الشاب الذي سار إلى مصيره بشجاعة في تظاهرة ستقوده إلى حتفه، ماذا كان مراده حينها! صورة الشيخ الأزهري عماد عفت بدت لي أكثر استسلاما لمراوغة الموت، تلقى الرصاصة بصدر مفتوح، كأنه فرح بالشهادة، هو أيضا بدا لي محبا للحياة، وثائرا للكرامة، ففي إحدى صوره يقف أمام التلاميذ ومن خلفه سبورة مكتوب عليها بالطبشور الأبيض بيت الشعر: إنّ هندُ المليحةُ الحسناء وأي من اضمرت لخلٍّ وفاء لكن لعبة الموت الجذافية سحبت الشيخ الأزهري قبل أن يشرح كل ما فعلته هند! أفكر في كل ما يقال عن الموت والحياة، وبأننا نحس قبل موتنا بدنو عزرائيل نحونا، هل أحس هو بملاك الموت؟ أفكر أن علاء - ورفاقه لم يخمنوا لوهلة أن جسد الشاب الفتي لن يعود معهم، و أن أمه التي تنتظر تخرجه في كلية الطب لا بد أنها رددت مرارا " كذب"، ولم تصدق حكاية ملاك الموت الذي ضحك على ابنها وسحبه الى عتمته الأبدية، من دون أن يسمح لها بأن تزغرد له يوم تخرجه، أو أن تستقبل المهنئين بزفافه. لن يحدث أي شيء من هذا أبدا.. وربما لن يُذكر اسم "علاء" من ضمن شهداء الثورة، بل من ضمن ضحاياها. الموت لا يترك حيزا للتفاوض، لقبض التبرعات بالأيام من عمر إلى عمر، لو كان هذا ممكنا لتبرع كل من عرف علاء بيوم من حياته ليضاف لعمر الطبيب الذي نام باكرا جدا. ليس للحزن الآن - أي معنى ، ماذا يفعل الحزن مع القناص الذي يختبئ في مكان ما، أو مع الرصاصة الملثمة التي لا نعرف من أين تنطلق ليتلقاها صدر علاء أو الشيخ عفت، أو محمد مصطفى، أو رامي، أو ..أو..أو . يصير الحزن الآن جزء من مسيرة الحدث الأكبر، الذي تتعدد وجوه رواته ويتنوعون بحسب الموقع والإنتماء، لكن هل من المهم أن نسمع مضمون تلك الروايات أمام جثة طازجة يتدفق منها الموت. جسد فتي قُتل على أرض مصر وبأيد مصرية. جسد لم يذهب للحرب في فلسطين، أو على حدود سيناء، بل مات هنا في قلب القاهرة . يا لها من نهارات ماجوسية، ندور فيها حول النيران، وتحت أرجلنا وحل لزج، وماء النهر ملوث بالجنون،. ما الذي يعنيه أن يسقط ثلاثة عشر قتيلا أو أكثر في أحداث شارع القصر العيني، ومئات المصابين والجرحى، ما الذي يعنيه وقوع العشرات من الشهداء في شارع محمد محمود، ومن قبل ثمان وعشرين قتيلا في أحداث ماسبيرو معظمهم من الأقباط، وما الذي يعنيه سقوط ثلاثمائة جريح في أحداث ميدان العباسية؟ ماذا تعني كل هذه الأرقام؟ وكما لو أنه صار من الطبيعي أن نسمع في البداية عن حدوث تظاهرة ، ثم نسمع بسقوط ضحايا، ونشاهد عبر اليوتيوب والفيسبوك تسجيلات قصيرة لمدرعات وناقلات جنود تتحرك نحو المتظاهرين،أو رصاص حي يُطلق عليهم، أو أن نرى أفرادا من الشرطة العسكرية أو جنود ا من الجيش يضربون بعنف وبعصيهم الغليظة شاب أو فتاة، ثم يخرج علينا من يقول بأن جماعات مندسة تُحدث الوقيعة بين الجيش والشعب. لكن حكاية الجيش والشعب، ليست إلا أسطورة كبرى من ضمن الأساطير الموهومة، وهتاف " الشعب والجيش أيد وحدة" صار مهترئا، ولم يعد نافعا في هذا الوقت. وفي كل الأحوال لا يمكن للشعب والجيش أن يكونا يدا واحدة، هذا ما أثبتته الجيوش العربية بجدارة. وفي حالة مصر تحديدا ثمة قطيعة لا يمكن وصلها حدثت بين الجيش والشعب بعد حمامات الدماء التي تسيل في الشوارع ويروح ضحيتها متظاهرون عزل. لم تكن حوادث الموت والضرب والسحل في شارع القصر العيني، ومن قبل في شارع محمد محمود وما سبقها أيضا من وقائع هي المسمار الأول في خراب تلك العلاقة، كما لم تكن حادثة ضرب المتظاهرة (غادة كمال) وتعريتها إلا استئنافا لحوادث عنف سابقة ضد الفتيات، فقد جرى الحديث من قبل عن واقعة كشف العذرية التي تعرضت لها تسع فتيات في السجن الحربي في شهر مارس الماضي، على خلفية فض اعتصام في ميدان التحرير. وحادثة كشف العذرية ماتزال متداولة أمام القضاء، بعد أن رفعت فتاة وحيدة هي(سميرة ابراهيم ) دعوى ضد المجلس العسكري، ورفضت التنازل عن الدعوى رغم تعرضها للتهديد.. حمل سلوك الجيش بالنسبة للمصريين نوعا من المفاجئة لأن تلك التصرفات العنيفة، وما يرافقها من ضرب وتعذيب واعتقال ظلت لعقود طويلة خاصة بممارسات الشرطة؛ ولم يكن من المتوقع أن يسير الجيش على ذات النهج، لكن هذا ما حدث؛ بل إن القطيعة التي أصبحت بين الجيش والشعب، لم تظل مقتصرة على الثوار والمتظاهرين، بل وصلت للمثقفين أيضا، تحديدا للثوار منهم، بعد محاولة المجلس العسكري اتهام الناشر محمد هاشم- صاحب دار ميريت- بأنه من المحرضين على أحداث العنف في شارع القصر العيني، وعلى الفور سارع عدد من المثقفين إلى نشر بيان على موقع "الفيس بوك" يدعون فيه إلى التضامن مع الناشر محمد هاشم، ثم أعلن اتحاد الناشرين المصريين تضامنه مع هاشم؛ وكانت الخطوة الجريئة في قضية هاشم حين نشرت جريدة الشروق حوارا قام به الزميل هشام أصلان مع الطفل الذي وشى بالناشر محمد هاشم تحت التعذيب، وكشف الطالب (منصور أمين منصور) في حواره المصور مع أصلان، عن جولات التعذيب التي تعرض لها من لحظة اعتقاله من قرب ميدان التحرير، مرورا بالسجن الحربي، النيابة، وسجن طره، ثم الإصلاحية. من البديهي إذن أن تقوم تظاهرات ؛ يُطالب فيها المجلس العسكرى بالرحيل عن السلطة ومحاكمة من قام بهذه الانتهاكات وقتل الشهداء، وتقديم اعتذار رسمى لنساء مصر على ما حدث. ففي المسيرة النسائية التي انطلقت من ميدان التحرير خرجت آلاف من النساء مرتديات الملابس السوداء حدادا على ما تعرضت له الفتيات فى أحداث مجلس الوزراء، مرددات : " بنات مصر خط أحمر " و"يسقط يسقط حكم العسكر " و"على راسك على راسك أنتى اشرف من اللى داسك ". لكن من المدهش أن المجلس العسكري أبدى "أسفه الشديد" لسيدات مصر لما حدث من "تجاوزات" خلال الأحداث الأخيرة في مظاهرات مجلس الشعب والوزراء، مؤكدا احترامه وتقديره الكامل لهن ولحقهن في التظاهر والمشاركة بالحياة السياسية، و أنه تم اتخاذ كافة الإجراءات القانونية لمحاسبة المسؤولين عن هذه التجاوزات. ولعل هذا الإعتذار فيه أبلغ تأكيد أن الشعب والجيش لم يعودا يدا واحدة، الاعتذار جاء تأكيدا على الخطأ، الإعتذار هنا كلمات جارحة تعيد تمثيل الجريمة ليس إلا، بلاغة رنانة، ووعود بتصحيح المسار، لكن الشعب فقد إيمانه بالحكاية، وكشف هشاشة بنيتها وضعف أسلوبها، صار للشعب عين ترى،ورغبة مفتونة بالقدرة على اكتشاف الذات أكثر وأكثر، فمع كل صدام جديد تتخلق عند المصريين قدرة جديدة لمعرفة طاقتهم على المواجهة، سائرين باصرار نحو ما يريدونه فقط.