عندما أعطانى الأستاذ عاطف يوسف نسخة من روايته "الجدع" لم أكن أنوي قراءتها لهواجس تخصني، وبعد ليلتين كنت قد قرأتها كاملة رغم أنها رواية كبيرة في 400 صفحة. (الجدع، رواية، عاطف يوسف، مركز الإسكندرية للكتاب، ط أولى 2010، 400 صفحة من القطع المتوسط، وقد صدرت طبعتها الثانية هذا العام عن دار غراب). كنت أظن أنها مجرد سيرة ذاتية لمصري هاجر إلى باريس، وصل إلى سن المعاش، ويريد أن يحقق شهرة بفلوسه! وهي حالات موجودة وكثيرة. كما أن كلمة الغلاف الأخير تشير إلى أن الرواية تدور بالكامل في باريس، فما الذي يمكن أن يقدمه هذا الكاتب فى روايته الأولى بعد أن قدم لنا مدينة النور طه حسين في"الأيام" و"أديب"، وتوفيق الحكيم فى "عصفور من الشرق"، وسهيل إدريس في "الحي اللاتيني"، ما الذي يمكن أن يضيفه؟! لكنني؛ من باب الفضول والعادة، قررت أن أقرأ صفحة أو اثنتين، وبدأت القراءة، ولم أتوقف إلا عند الصفحة رقم 240، ولم أقاوم تفاعلي مع الرواية وانفعالي بها حتى أنهيتها في الليلة التالية، فما الذي في هذه الرواية؟! القدرة الكبيرة على الحكي، قدرة الجدات القادرات على جذبنا إلى حكاياتهن بخيوط غير مرئية، أول سمات هذه الرواية، فالكاتب يمتلك هذه القدرة بجدارة، يحسن وصف المكان بلا إطالة ولا تزيد، يكتفى بالتفاصيل القادرة على رسم صورة المكان في ذهن القارئ، جغرافية المكان وتاريخه معا، ثم يحرك شخصياته في هذا المكان بتلقائية محسوبة. هي براعة مخططة حتى تبدو وكأنها عفوية، فما هو المكان؟ إنها باريس الأخرى، ليست مدينة النور والثقافة والرقي، ليست مدينة طلاب العلم والفن، ليست مدينة الجن والملائكة، إنها مدينة السوق، سوق "الهال" الذى يغذى باريس بالطعام والمخدرات والعاهرات. الجدع؛ شاب مصري (لا يذكر الكاتب جنسيته إلا من خلال إشارات بسيطة) شبه متعلم، يتطلع لأن يكون من كبار تجار السوق، وبالذات تجار اللحوم، ويحقق حلمه شبه المستحيل، فكيف يتحقق الحلم؟! يقسم الكاتب روايته إلى فصلين، ينتمي الفصل الأول إلى ما يسمى بروايات التكوين، فهو في هذا الفصل يبني العالم الذي ستدور فيه روايته، وهو عالم جديد تمامًا على الرواية العربية، عالم سوق الهال بعلاقاته الخشنة، عالم المصالح التي لا تعرف الرحمة. ويربط هذا العالم بأحداث الثورة الفرنسية في علاقة عضوية غير مفتعلة، الثورة التي سالت أنهار من الدماء لكي تنجح، الثورة التي ساعدت العاهرات في نجاحها، ونجحت الثورة في رفع شعار الحرية والإخاء والمساواة، لكن العالم الحقيقى لم يتغير، ما زال هناك أغنياء، وأغنياء جدًا، وما زال هناك فقراء إن لم يعملوا يموتوا، ولم تتوقف باريس عن إنجاب واستقبال وتربية العاهرات، ولم تتوقف الرشوة ولا الفساد ولا استغلال النفوذ، العالم الذى قامت الثورة لهدمه تغيرت معالمه، لكنه فى جوهره هو هو، ويبدو أنه لا أمل حقيقى فى تغييره، وليبحث كل فرد عن خلاصه الشخصي في عالم هذه مكوناته. في الفصل الأول/فصل التكوين يستعرض الكاتب تفاصيل حياة الجدع في سوق الهال، تفاصيل تكوينه، كيف بنى شخصيته، ونماها، كيف حلم، وكيف حقق أحلامه. لا يرفض الجدع (وليس له في الرواية سوى هذا الاسم/الصفة) أي عمل يسند إليه ما دام شريفًا ولا يمس كرامته، يدرس أهل السوق جيدًا، يدرس العلاقات بينهم، يستفيد من هذه العلاقات سواء كانت علاقات عداء أم صداقة، علاقات واضحة ومشروعة أو خفية غير مشروعة، يتعلم من كل المواقف. ينمى إمكاناته العلمية، يخطط لخطواته القادمة بدقة وسرية وهدوء وتصميم، يتحلى بالفضائل الإنسانية الأساسية للتجار، الأمانة، والاستقامة، والصبر والتحمل، والسعى لتحقيق المصلحة الشخصية مهما يكن الثمن، مستفيدا من كل ما يتاح له من اسباب موضوعية وعلاقات شخصية. يحرص الكاتب على تقديم شخصيات حية، من لحم ودم، شخصيات يمكن أن تلتقي بها في سوق الهال بباريس أو فى سوق باكوس بالإسكندرية، وهذا أحد أوجه الاختلاف المهمة بين روايته وروايات بعض كبار كتابنا عن باريس، فشخصياتهم في الغالب حاملة لأفكار وإيديولوجيات وقيم توضع على المحك في باريس، لكن شخصيات رواية الجدع لا تحمل سوى قيمها الخاصة كبشر مروا بظروف مختلفة. الجدع مصرى، لكنه لا يقيس قيمه إلى قيم أهل السوق، ولا يقيم أخلاقهم بقيمه، يتعامل معهم كما هم، لا يحكم عليهم ولا يحاكمهم، ولا يحاكم نفسه مقابلهم، الحياة اليومية الحقيقية، حياة اعمل أو مت، لا تمنح أحدا هذا الترف الفكري، فأقرب أصدقاء الجدع إلى قلبه ماري مادلين كانت عاهرة، وزوجها جان ماري كان فتوة، لكن كل منهما يحب الآخر بجنون، ويخلص له، رغم أنهما يعيشان منذ سنوات فى حالة من عدم التفاهم الغامض. ومن أصدقائه أيضا مدام جوبيون وهي صاحبة مقهى وأحد قادة مقاومة الألمان في الحرب العالمية الثانية ( هي شخصية حقيقية حتى باسمها فلم يغير المؤلف هذا الاسم)، ودونيس المذيعة اللامعة، وجان كلود الشاذ جنسيا، البابا إرنست الأديب المخمور الذي يكتب ويلقي ما يكتبه فى القمامة فتحتفظ به زوجة صاحب المقهى فى ملف لأنها وزوجها يعرفان قيمته. وغيرهم من الشخصيات التي يقدمها المؤلف كما هي دون أى حكم قيمي نابع من ثقافة محددة، ودون مقارنات بين ثقافات مختلفة، وهو ما أعطى الرواية سمة الحياة الطبيعية والحقيقية، فالجدع إنسان طبيعي حقيقي، يحمل نقاط قوته وضعفه، يحمل مثالياته الخاصة، ولا يتورع عن الاستفادة من علاقة صديقته الأثيرة ماري مادلين وتاجر نصف الجملة كرستيون، وهو لذلك شخصية قريبة إلى القارئ، شخصية يمكن أن يقابلها في أى مكان وزمان، بل يمكن ان تكون هي القارئ نفسه. أما الفصل الثاني فهو فصل النجاح ومصاعبه، فبعد التكوين ينطلق الجدع في عالم التجارة بما لديه من إمكانات صقلتها التجربة والتعليم، وبمساعدة الأصدقاء، ينمي عمله، ويبتكر أفكارًا جديدة أهمها فكرة "اللحوم الحلال"، أي الذبح طبقا للشريعة، وبالتالي يستحوذ على سوق كبير لا يجد من يلبي طلباته يضم مسلمين ومسيحيين ويهود، وهو ما يجعل عمله يكبر بسرعة تثير لعاب الفساد الحكومي ممثلا في الشرطة. الكمسير أي مأمور قسم الشرطة نصف المتعلم الشره للمال والذي يحكم السوق بقبضة من حديد ويستحوذ على نسب من أرباح التجار ليتركهم يعملون دون مشاكل، ومن يقف فى وجهه ويرفض الدفع مثل الجدع فإنه يلاعبه بالطرق الرسمية، مخالفات غير حقيقية، واتهامات مزورة تؤدي إلى إغلاق محلاته وتهديده بالسجن لكن الجدع بما لديه من ذكاء وقدرة لا نهائية على التحدي يرفض الخضوع لهذا الابتزاز حتى ولو كان إصراره هذا سيقضي عليه، فتساعده دونيس بعلاقاتها في الإيقاع بالكمسير بقضية رشوة. يقول المؤلف على الغلاف الأخير لروايته: "وضعت الرواية خطط النجاح في أصعب الظروف من خلال أحداث عاشها الجدع في حواري وأزقة باريس المظلمة" وهو بهذا يضيق أفق القراءة لرواية تحمل في حقيقتها ما هو أكبر وأعمق من هذه الفكرة. الرواية تقدم الإنسان عندما يستطيع استخراج أفضل ما فيه في مجابهة وحشية العالم، تقدم الصداقة العملية البسيطة الحقيقية دون طنطة، تقدم تآزر من كتب عليهم الكفاح اليومى؛ وتناحرهم أيضًا، من أجل البقاء أو تحقيق الحلم، أو القضاء على الحلم، كل حسب موقعه ومصلحته. الرواية تجسد؛ ومن المهم التأكيد على كلمة التجسيد هنا، فهي تحكي من خلال مواقف فعلية مرسومة بدقة يستطيع القارئ أن يتصورها بمخيلته، أقول إنها تجسد دراما الصراع الإنساني منذ الأزل، أكون أو لا أكون في مقابل كل التحديات وعوامل الفناء، لكنه ليس مجرد الكينونة التي يحققها النجاح المادي، فالنجاح المادي هنا ليس سوى المظهر الخارجي للنجاح. النجاح الحقيقي الذي حققه الجدع هو اكتشافه لقدراته الخاصة، وقدرته على استخدام هذه القدرات بأقصى درجة ممكنة، واكتشافه لعلاقات السوق التحتية، وقيمه الحاكمة، وقدرته على التعامل معها وتطويعها لصالحه، واكتشافه لدخائل النفس الإنسانية في أصدقائه وأعدائه على السواء، وفهم العميق لهذه النفوس، وقدرته على الاستفادة من هذا الفهم فى واقع حياته العملية، والأهم من ذلك كله، أو بمعنى أصح الإطار الذى يجمع ذلك كله إيمانه بذاته وبقيمه الإنسانية الدافعة والحامية وصموده بهذه القيم ومن أجلها. (أهمس للمؤلف: فى الطبعة الثانية لابد من تغيير كلمة الغلاف التى لا تعبر تعبيرًا حقيقيًا عن مدى اتساع أفق وعمق رؤية روايته) ثلاث ملاحظات في روايته الأولى "الجدع" استطاع عاطف يوسف (الاسم الحقيقى محمد يوسف عبده، واسم الشهرة اختارته له والدته منذ الصغر) المصري المولود بحي محرم بك بالإسكندرية سنة 1943 والمهاجر إلى باريس سنة 1968 ثم المهاجر من فرنسا إلى أمريكا سنة 1997 والعائد إلى وطنه كاتبا سنة 2010م أن يقدم عملاً ناضجًا إلى حد كبير، لكنه لا يخلو من ملاحظات أعتقد أن تلافيها كان سيعلو بالعمل أكثر، أهم هذه الملاحظات هي: الضمائر المربكة: لقد استخدم الكاتب ضمير الغائب ليقدم به روايته، ورغم أن الرواية بها قدر لا بأس به من السيرة الذاتية للكاتب إلا أنه كان من الذكاء ليستخدم ضمير الغائب الذى يضعه على مسافة مناسبة من الشخصية الروائية ليستطيع أن يقدمها هي والشخصيات الأخرى بقدر معقول من الحياد، وهو ما نجح فيه، ولولا بعض المعلومات عن الكاتب فى نهاية الكاتب لما كان هناك إمكانية لمعرفة أن هناك نقاط تماس بين حياته الحقيقية وحياة بطل عمله الروائى، إلا أن ضمير المتكلم يقفز أحيانا، دون مبرر، ليحتل مكان ضمير الغائب فيربك القارئ، وهو أمر كان يمكن تلافيه بسهولة، وهذه الإمكانية لم تزل قائمة فى حالة إذا ما قدم الكاتب روايته في طبعة ثانية، ومن الأمثلة على ذلك الفقرة الأخيرة فى ص 333، والسطر التاسع في ص 276. شانتال: سكرتيرة المدرسة القومية للحوم، فتاة جميلة جدا، مهذبة، مثقفة، يحبها الجدع، وتحبه، ويتزوجان، في القسم رقم (5) من الفصل الثاني يحكى المؤلف كيف تقدم الجدع لخطبة شانتال، وزواجه بها، ثم يقفز على الزمن ويحكي أنهما سينجبان ثلاثة أطفال، ولدان سيكون أحدهما طبيبًا والآخر مهندسًا، وبنتًا ستكون محامية. ويقول عن شانتال "أحبت الجدع بكل طاقتها، ولم تتخل عنه حتى في أشد أزماته التجارية" ص265. وهنا مشكلتان، الأولى الاستباق الزمني غير المبرر الذى يحكي فيه الكاتب في سطور قليلة ما لا يقل عن ثلاثين عاما من حياة الجدع وشانتال وأولادهما، وهو ما لا يخدم العمل الروائى، وإن كان يتماس بشكل ما مع السيرة الذاتية. خصوصًا أن الرواية تعتمد الزمن الخطي في تسلسلها. أما المشكلة الثانية فهي اختفاء شانتال من بقية الرواية، فلا نرى لها أي دور في أزمته أو معركته الكبرى مع الكمسير المرتشي، ولا حتى ذكر اسمها عند الترتيب للاحتفال بانتصار الجدع في معركته، بل إنه حتى لم يذكرها عندما قدم فى نهاية الرواية ثبتا بشخصياتها ونبذة عن كل شخصية. تقطيع زمن الخطة: بالاتفاق مع كبار رجال البوليس تم وضع خطة الإيقاع بالكمسير، وهي خطة شهيرة وبسيطة، يوافق الجدع على دفع الرشوة، على أن تكون فى مكان عام، ويقدم مبلغ الرشوة للكمسير، وهو مبلغ قدمه له البوليس ويعرف أرقام أوراقه، ويتم القبض على الكمسير متلبسًا بقضية رشوة. حكى الكاتب هذه القصة على عدة أقسام فى الفصل الثانى من الرواية، وذلك بغرض إثارة قدر من التشويق لدى القارئ، وحقق الكاتب ما رمى إليه بجدارة، لكن هذا التقسيم على جانب آخر خلق نوعًا من الارتباك الزمنى فى العمل، حيث تتقدم أيام باقى فصول الرواية التى تقطعها أقسام الخطة التى تمت فى يوم واحد، وكان يمكن أن يلغى الكاتب هذا الارتباك بحيلة فنية أو أخرى تحافظ على التشويق والإيقاع المشدود للعمل، وتتجاوز الاختلاط الزمني. استعادة اللغة.. استعادة الذات بعد أن قرأت الرواية واستمتعت بها جمعتنى جلسة مناقشة مع الكاتب، وتطرق إلى حكايته مع اللغة، كنت مبهورًا بالحكاية، كيف اكتشف فى الثمانينيات من القرن الماضى، وبعد حوالى 14 سنة من هجرته إلى فرنسا أنه نسى اللغة العربية، يتحدث الفرنسية، يكتب الفرنسية، يفكر بالفرنسية، حتى أحلامه كانت بالفرنسية، وبإصرار لا يقل عن إصرار الجدع قرر استعادة لغته. فكان يقرأ كتابين باللغة العربية مقابل كل كتاب يقرؤه بلغة أجنبية، ويقرأ صحيفتين باللغة العربية مقابل كل صحيفة يقرؤها بلغة أجنبية، وينسخ كل يوم مقالاً من صحيفة عربية، يكتبه بيده لتستعيد علاقتها بلغتها الأم، ويشترى كتب قواعد اللغة العربية والنحو ويدرسها، وهكذا استعاد لغته، فاستعاد ذاته الحقيقية، واختار أن يعبر بهذه اللغة عن تلك الذات وتجربتها، فمنحنا هذه الرواية التى أصبحت أكبر من مجرد رواية، إنها إنجاز انحياز الكاتب للغته وذاته، وهى تجربة أدعوه إلى الكتابة عنها باستفاضة، فأهلاً بها من عودة، واعتذار عن سوء ظني الذي به بدأت هذه القراءة للجدع!