ليس من الممكن استخدام الفعل الماضي في الحديث عن “سينما محمد خان”، فهي لا تزال موجودة، وستظل محفورة في ذاكرة المشاهدين العرب، بعد رحيله المفاجئ الصادم الذي يعد خسارة كبيرة للسينما في العالم العربي، فقد كان بين قلائل من أبناء جيله، حيث ظل حتى آخر لحظة في حياته، يعمل ويخرج الأفلام ويذهب إلى المهرجانات السينمائية يعرضها ويناقشها. لم يركن إلى الصمت أو يتوارى عن الأنظار مكتفيا بالتطلع إلى إنجازاته السابقة، بل كان يخطط ويدرس ويستعد لمشاريع سينمائية جديدة قادمة، بحماس الشباب الذي لم يفارق محمد خان يوما، فقد كان مليئا بالحيوية والإقبال على الحياة، يتمتع بحب الجميع، من أبناء الأجيال المختلفة، ينقل خبرته إلى تلاميذه من السينمائيين الشباب، في تواضع كبير، وحب كبير للسينما والحياة والناس. عاشق السينما محمد خان الذي ربطتني به صداقة امتدت لأكثر من ثلاثين سنة، لم يدرس السينما دراسة أكاديمية (المعلومات المنشورة في هذا المجال خاطئة ومضللة)، بل تعلم السينما في قاعات العرض السينمائي، من مشاهدة الأفلام نفسها، ويمكنني القول بثقة، إن محمد خان من أكثر من عرفتهم في حياتي “إدمانا” على مشاهدة الأفلام، ومن كل الأنواع دون استثناء، بل وربما كان يشعر بنوع من الغيرة الجميلة عندما يسمع من يحدثه عن فيلم جيّد شاهده، وكان يتحين الفرصة للحصول عليه ومشاهدته. كان محمد خان قريب الشبه بمخرجي حركة الموجة الجديدة التي ظهرت في فرنسا في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، الذين تعلموا السينما من خلال السينما نفسها، واكتسبوا خبرتهم عن طريق الممارسة المباشرة. وخلال فترة إقامته في العاصمة البريطانية لندن في الستينات، ثم في السبعينات، كان دائم التردد على قاعة العروض السينمائية الشهيرة “مسرح الفيلم الوطني”، القاعة الواقعة في الضفة الجنوبية على نهر التايمز وتتبع معهد الفيلم البريطاني (وهو مؤسسة ثقافية وليست تعليمية)، وتعتبر هذه القاعة مدرسة حقيقية للسينما، فقد كانت ومازالت، تنظم عروضا منظمة، للمدارس والحركات والتيارات السينمائية المختلفة وأعمال المخرجين، وهناك شاهد خان الكلاسيكيات، وأفلام المجددين في السينما العالمية إبّان تلك الفترة من عقدي الستينات والسبعينات، وهي الفترة التي يمكن أن نطلق عليها بحق، “عصر السينما”، أي عصر حركات التجديد التي نقلت السينما من مجال التسلية والصناعة إلى مجال الفنون الرفيعة والشعر. على المستوى العملي، مثله مثل سبيلبرغ، بدأ محمد خان علاقته بالسينما من خلال أفلام الهواة، ولعب ارتباطه برفيق طفولته وشبابه، سعيد شيمي، دورا كبيرا في حبه للسينما وإقباله على اقتحام عالمها، فقد أخرج في بدايات حياته الفنية عددا من أفلام الهواة، منها فيلم “الصعود فوق الهرم” (1969)، صوره بكاميرا من مقاس 8 مم، سعيد شيمي الذي أصبح فيما بعد أحد مديري التصوير المرموقين في السينما المصرية، بعد ذلك أخرج خان من تصوير سعيد شيمي أيضا، فيلما روائيا قصيرا بديعا يدوم 10 دقائق هو فيلم “البطيخة”. رحيل فارس من فرسان "عصر السينما" كان “البطيخة” يصور فقط عودة موظف صغير مطحون من عمله إلى بيته في قيظ الظهيرة بمدينة القاهرة، حاملا بطيخة يتشوّق لتقاسمها مع أفراد أسرته لعلها تكسر لديهم حدة حرارة الصيف. إنها فكرة مجردة وشديدة البساطة، لا مجال لتحميلها بأفكار فلسفية أو اجتماعية كبيرة، لكن خان ومصوّره العظيم سعيد شيمي، الذي سيظل يشاركه إنجاز أهم أفلامه في ما بعد، تمكنا من تحويل هذا الموضوع البسيط إلى تحفة بصرية وصوتية، لا شك أنها جاءت متأثرة كثيرا بالسينما الفنية الجديدة التي كان للكاميرا فيها، كما للمونتاج والصوت، دور كبير بارز، كان هذا أيضا زمن “الأبيض والأسود”، وهو فن التصوير الأكثر صعوبة وأصالة. وعندما توليت إدارة مهرجان الإسماعيلية السينمائي عام 2012، فكرت في تنظيم عروض لعشرة من الأفلام الأولى لعشرة مخرجين مصريين أصبحوا في ما بعد من كبار السينمائيين في السينما الروائية والتسجيلية، أمثال داود عبدالسيد وهاشم النحاس وعلي بدرخان وصلاح أبوسيف، اخترت فيلم “البطيخة”، واتصلت بمحمد خان للحصول على نسخته السينمائية (وكانت من مقاس 35 مم)، وقلت إننا سنقوم بعمل نسخة رقمية (ديجيتال) منها على نفقة المهرجان، وافقنا على أن يحصل هو على نسخة على سبيل الإهداء، وقد تحمس كثيرا للفكرة، ثم جاء إلى مكتبي ومعه صديقه التاريخي سعيد شيمي (وكان الاثنان قد قبلا وقتها المشاركة في عضوية لجنة المشاهدة واختيار أفلام المهرجان). وضع خان علبة الفيلم أمامي، وكان شديد الحرص عليها، وقال أنها ظلت راقدة منذ سنوات في الحقيبة الخلفية لسيارته، وطلب أن أتعهد له بالمحافظة عليها وإعادتها إليه بعد تحويلها إلى النسخة الديجيتال. كنت شديد السعادة بالحصول على الفيلم الذي لم يكن قد عرض في مصر منذ عروضه الأولى وقت ظهوره عام 1972، لكني فوجئت في ما بعد، عندما أخبرني مدير التصوير السينمائي محمود عبدالسميع، وكان هو المسؤول عن الجوانب التقنية والفنية في المهرجان، بأن الشريط الذي وجد داخل العلبة كان شريط الصوت فقط، أما شريط الصورة فكان مفقودا.. أي أننا أمام جزء من الفيلم قبل عمل ما يسمى ب”المكساج”، أي المزج بين شريطي الصوت والصورة. وعندما أخبرت محمد خان، أبدى استغرابه وقال إنه لا يعرف الموجود داخل العلبة وأنه لم يفتحها منذ سنوات، ولا يعرف أين ذهب شريط الصورة.. ثم بدأ البحث الطويل الشاق من أجل العثور على الشريط المفقود، وأخيرا تمكننا من العثور عليه في مخزن مغلق في بيت مونتير الفيلم أحمد متولي، الذي توفي -رحمه الله- في ديسمبر الماضي، وكان قد أهمله ونسيه تماما، وقد أمكن بالتالي إنقاذ الفيلم، ثم استخلاص نسخة رقمية حديثة منه، وعرض الفيلم بحضور مخرجه خان، في تلك الأمسية المشهودة التي شهدت تدفق عدد كبير من جمهور مدينة الإسماعيلية على نحو لم يشهده المهرجان من قبل. ابن الثقافة المصرية يميل البعض من الأصدقاء إلى القول إن محمد خان لم يكن مصريا، بل باكستاني، بحكم أن والده كان باكستانيا، وكانت أمه إيطالية، وقد عاش كلاهما لفترة طويلة في مصر، وكانا يحملان الجنسية البريطانية، ثم حملها خان أيضا. ومع ذلك، ولد ونشأ خان على أرض مصر، في حي عابدين وسط مدينة القاهرة، ثم تزوج من مصرية وأنجب منها، وارتبطت مشاعره وثقافته وضميره الشخصي والمهني بمصر، وبالثقافة المصرية، وبالسينما المصرية، وصنع كل أفلامه في مصر. ولأسباب تعود إلى التعقيدات البيروقراطية المعروفة في الإدارة المصرية لم يتمكن محمد خان من الحصول على الجنسية المصرية، إلاّ قبل سنوات محدودة، ولكن هذا لم يكن يحول دونه والإقامة الدائمة في مصر، والاستمرار في عمل أفلامه هناك، والقول إن محمد خان باكستاني، يشبه القول إن وودي ألين ينتمي إلى يهود خيبر وبني قريظة! كان محمد خان من المخرجين الذين حظوا باهتمام كبير من جانب النقاد، سواء في مصر أو خارج مصر، وقد كُتب الكثير عن أفلامه، وصدر عنه وعن تجربته أكثر من كتاب، وعرضت أفلامه في المهرجانات السينمائية بالعالم العربي حيث نالت الكثير من الجوائز. ويعتبر فيلمه “الحرّيف” أحد أفضل الأفلام في تاريخ السينما المصرية جنبا إلى جنب مع “زوجة رجل مهم” و”أحلام هند وكاميليا”، وتعتبر هذه الأفلام الثلاثة تحديدا، من كلاسيكيات السينما المصرية، وفيها يبرز أسلوب خان الذي يمكن القول إنه يميل إلى الواقعية الشعرية. صحيح أنه يصور أحداث وشخصيات تتحرك في الواقع، واقع الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة، إلاّ أن تصوير خان أو تجسيده لهذه الشخصيات والأحداث والمشاهد، يصطبغ بحزن نبيل، وبميل إلى التأمل الشعري، والبحث الروحاني المعذب عن الخلاص، ما يعكس شعورا دفينا بالحزن، وبالاغتراب عن الواقع، وبالميل إلى مشاكسته والتمرد عليه وتجاوزه، ولكن دون نجاح. وأبطال أفلامه هم بهذا المعنى، أبطال مهزومون باستمرار، إنهم أبطال فرديون، يخوضون معارك يومية من أجل البقاء، وإثبات الوجود رغم الظروف القاسية المحيطة بهم، إنهم يسقطون وينهضون، ثم يخسرون معاركهم، فالواقع أكبر وأقوى، وما تملكه اليوم، سيضيع منك غدا. هذه الرؤية الحزينة الشفافة، هي التي جعلت خان بأفلامه، أحد السينمائيين المجددين في السينما المصرية، فواقعيته ليست واقعية الحارة والجماعة أو الكشف عن بذور التمرد الكامنة والتبشير بالثورة الاجتماعية، كما كانت أفلام كامل التلمساني وصلاح أبوسيف مثلا، بل هي أفلام تمتزج بالشعور الشخصي؛ بحجم المتاهة ومستوى الاغتراب غير المسبوق، بعد أن أصبح الواقع يستعصي على التصنيف. تحفة "كليفتي" من بين كل أفلام خان أشعر بحب خاص لما أعتبره أكثر أفلامه جرأة، ليس فقط على الصعيد الاجتماعي، بل على مستوى الجرأة في الشكل، وهو فيلم “كليفتي” الذي أنتجه وأخرجه محمد خان عام 2004 وصوره بكاميرا الديجيتال الرقمية، في تجربة طليعية غير مسبوقة. إنه تحفة سينمائية خالصة، لكنه كان أيضا، أكثر أفلامه ظلما وتجاهلا، ربما بسبب ظروف إنتاجه التي لم تسمح بعرضه جماهيريا في دور العرض كما كان ينبغي، وربما أيضا نتيجة عدم وجود نجوم شباك في بطولته، فلم يكن اسم الممثل باسم سمرة قد لمع بعدُ عندما قام ببطولة هذا الفيلم أمام الممثلة الموهوبة رولا محمود، التي لا شك أنها تعرضت لأبشع عملية اغتيال فني تتعرض له ممثلة موهوبة، بسبب عدم استعدادها لتقديم التنازلات. “كليفتي” ليس من أفلام الهجاء السياسي، بل من أفلام البحث الشاق عن العلاقة بين الإنسان والعالم المحيط به، ليس على صعيد مجرّد أو تجريدي، بل في إطار محدد نعيشه ونلمسه، فالإنسان فيه هو ذلك الإنسان البسيط المهمش، الضائع، الذي لا يكف عن التطلع إلى تحقيق أحلامه الصغيرة، لكن هذه الأحلام تُجهض؛ إنه نموذج آخر للبطل الذي يُهزم باستمرار. هناك تيار ما “وجودي” في هذا الفيلم الشاعري الجميل المحمل بالعشرات من الإشارات حول معنى الوجود في عالم يرفضك ويضيق عليك، تفلت الفرصة فيه مرة تلو الأخرى، لكنك تحاول وتسعى وتتشبث ببصيص من الأمل: في الحب، في الصداقة، في استراق السمع، في سرقة الأشياء الصغيرة، في التعالي على المظاهر الخارجية من حولك، في الإحساس بعدم جدوى ما تفعله في قرارة نفسك، لكنك تواصل ارتكابه لأنه الشيء الوحيد الذي يضمن لك مجرد البقاء ولو على الهامش. يصبح الأصدقاء وهما كبيرا، وتصبح الأسرة طغيانا من المشاعر التي لا يمكنك احتمالها، أما الحب فلا مجال أمامه لأن يكتمل، فهو يتوقف عند لحظات من المتعة المسروقة التي تمنح بطلنا الصعلوك المشرّد، نقطة ضوء يواصل منها الاتكاء على جذع من النوايا الطيبة، والكثير من الحماقات الصغيرة. كان محمد خان هاويا عظيما للسينما، ولم يكن يصنع أفلامه نتيجة حسابات، بل كان مخلصا لما يحبه ويشعر به حتى لو لم تعجبنا نحن، ولكنه ارتكب خطأ واحدا عندما أخرج فيلم “أيام السادات”، الذي يعتبر شاذا عن كل أفلام خان، ولا أظن أنه أضاف له شيئا. لم أشاهد فيلم محمد خان الأخير، وكنت أودّ أن أشاهده عندما أذهب إلى القاهرة، وكان لا بدّ أن نلتقي، فقد كانت علاقتنا دائما سلسلة من اللقاءات والافتراقات، ولكن كان لديّ دائما شعور داخلي خاص بأن محمد خان هناك، في القاهرة، وأننا لا بدّ أن نلتقي مجددا، حتى في أحد المهرجانات السينمائية، لكن القدر شاء أن أحرم من هذا اللقاء. رحم الله محمد خان، الذي ذهب، وترك لنا أفلامه المليئة بالحب والحياة، والرغبة الممتدة، في الحلم والعيش والبقاء والصمود في وجه كل صعوبات الحياة.