تستيقظ بعض الأيام بمزاج غائم تماما، مزاج لا يصلح للحياة، أو للكلام أو لأي نوع من التفاعل الإيجابي، يوم مشحون بالدمع الذي لن يأتي، والحزن الذي يشبه الكتابة، حزن لا يسعفه البكاء، ولا أي شيء آخر، حزن يشبه مثقاب يوصل الوعي باللاوعي، ويخترق الجسد للروح، ويجعل الوجود عبثيا، والغثيان حتميا، والضجر غيمة تحلّق في روحك ولا تستحضر سوى قول ابي العلاء: غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي/ نوح باكٍ ولا ترنم شاد. تستيقظ ضائعا، لا تعرف ذاتك، ولا تجد نفسك في أي مكان، تتشابه أدوار الحياة كما يتشابه القرف منها. تطلق صرختك الكبرى، اللعنة! ماذا فعلت بنا أيتها الحياة؟ ماذا فعلت بنا أيتها الكتابة؟ وفي «مول» تتقاطر عليه الكائنات البشرية من كل حدب وصوب، يشبه الكون تماما في تمظهره المتنوع والمتنامي بمختلف الأشكال والأجناس والألوان، يزداد وجعك إذ تنظر إلى كائناته المتنوعة وأجناسه البشرية المتباينة أحرارا خفافا يعبرون. وافرو الفرح رغم ضيق ذات اليد والسعي اللاهث والمضني وراء لقمة العيش، يتأبطون أذرع زوجاتهم ويداعبون أطفالهم ويعيشون الحياة كأنهم أبسط من على البسيطة، فتستحضر عالمك الكبير من الماء للماء، الذي يتهاوى ويحترق، فتتساءل: لماذا نعبر بكل هذه الجراح والقيود في الذاكرة والوعي؟ ولماذا نعيش انكسارات التاريخ وتشظيات الحاضر كسبب أو نتيجة؟ لماذا لم نتعلم بعد كيف نعيش ببساطة كالآخرين، ونتقبل الآخر بكل اختلافاته؟ لماذا جعلنا القيم محصورة في الدين؟ فغابت القيم رغم ادعاءات التدين؟ لماذا لا نتعلم أن القيم الإنسانية والحياتية هي التي نحتاجها لنعيش بسلام وإنسانية؟ وأن شكلنا ولباسنا وجنسنا وديننا لا علاقة له بتعاملنا مع الآخر، ولا بإنجازاتنا الفكرية والعلمية التي تحرّك/ تعيق تقدمنا نحو الآخر ونحو والمستقبل؟ هل السياسة هي السبب؟ أم الدين هو السبب؟ لماذا لم نخلّي بين الكائن وربه في الدنيا والآخرة بلا إملاءات خارجية؟ لنحيا الحياة كما هي، أو كما يعيشها الآخر بقيم إنسانية، ذاتية نابعة من الضمير والوعي، وقوانين مدنية ملزمة للجميع بلا تفاوتات ولا تجاوزات؟ تريد أن تكتب، لأنك تؤمن أن هذه وظيفتك الحقيقية في الحياة، ولكن عم نكتب؟ عن عالمنا العربي الذي يتهاوى تحت سياط العنف والسادية الظلم؟ عن إنساننا المقهور من الماء إلى الماء؟ عن السياسة التي أثمرت كل هذا الخراب؟ أم عن الثقافة التي أصبحت محصورة لكاتب تحت الطلب، أو ملمّع للقبح، أو متسوّل للمال، أو مسلوب لحقه في الحرية باسم الوطن؟ عم تكتب؟ وأنت تدرك جيدا أنك محاصر بالأفكار والقيود، وتؤمن أن الثقافة ليست أن ترتاد معارض الكتب والندوات والملتقيات والمؤتمرات، ولا تتحقق في عدد الكتب التي يشتريها الشخص، أو يقرأها أو حتى يصدرها، ففعل الثقافة الجارح هو تلك العصارة المعرفية التي تتسرب إلى وعيك وروحك تماما، لتجعلك مع القراءة والتأمل منفتحا على الكون والإنسان، تجعلك حقيقيا فيما تقول وما تفعل، لا تختلق صورة، ولا ترسم حالة، ولا تتصنع موقفا، توازن خطواتك على الأرض، وتحرّك معرفتك لصالح إنسانيتك، تجعلك جوهريا أصيلا في صمتك وكلامك، في رؤيتك وتجاهلك، في مديحك ونقدك، تجعلك منفتحا على الكون والاحتمالات، تدرك كم أنت صغير مهما علوت، وقليل مهما كثرت. ذلك الرسوخ في المعرفة والامتداد في ملكوتها الشاسع كذرّة في ملكوت لا يحصى. ذلك البعد النفسي الذي يمنحك الهدوء والقلق معا، الخفة والثقل معا، تحلّق للسماء، وتركن للأرض معا. المناسبات والملتقيات والندوات الثقافية ليست سوى مظاهر للثقافة الخارجية، ولكن تجليات حضور المثقف هي مؤشرات لعمق الحالة الثقافية في بلادنا أو سطحيتها، ولتكوين المثقف ووعيه وثقافته التي تنعكس في مرايا سلوكه. ولذا يحدث أن تبتسم بهدوء وأنت تلمح ديكة الثقافة وطواويسها، تلك السنابل المرتفعة، ترسل رسائلها العابرة مع الريح في كل مكان، كما تتلبسك النشوة الروحية العميقة وأنت تجد السنابل الثقيلة البعيدة في الحضور، والكثيرة في الغياب تزداد انحناء وسلاما وعمقا واتحادا مع الكون والإنسان، تتحرك وتكتب وتغيّر بدقة عاملات النحل وصبرها وعملها الخفي. ومع هذا كله تدرك أن الفئة الأولى هي الأكثر حظا وحضورا . عم تكتب؟ وأنت بعد عمر من معاركة الحياة والكتابة والكتب، زمن من التعليم والمماحكة، تتأمل ملامح النقص في البناء التكويني للشخصية الناضجة في المجتمع العربي الذي يقتل إنسانه إنسانه، ويحقّره، ويظلمه، وتدرك جيدا أن النقص في التأسيس، وأن الحلقة الناقصة لا تحتاج كاتباً أو مثقفاً، بل صناع قرار، لإدراج مادة تعني بصناعة الشخصية، بكل أبعادها القيمية العميقة، مادة تجمع الفكر وفلسفة الأخلاق وعلم النفس، وتعنى بصناعة الإنسان بكل الأبعاد الحقيقية للشخصية الواعية، من المظهر حتى السلوك، تهتم بتقديم قيم توعوية حول صفات الإنسان الصالح المتحلي بالقيم الكونية من اتزان وثقافة وجمال وصدق وأمانة، ومعرفة؛ لأن بهذه المادة يمكن تكوين نماذج إنسانية راقية. إنها صناعة الإنسان التي ترفد صناعة الأوطان وترقى بها، وتذهب بها نحو المستقبل الزاهر، لأن التعليم اليوم هو الكيف وليس الكم، ومع هذا تعرف جيدا أن هذا بعيد جدا، وأن القُمع ما يزال جاهزا لحشو عقل الإنسان بالمعلومات القديمة وربما الفاسدة المنتهية الصلاحية. كما القَمع الذي يربي العنف، ويقتل الإنسان، ويحاصر الكلمة يذهب في تجليه وحضوره الأنيق، ويشتد عوده يوما بعد يوم. عم تكتب؟ والثقافة العربية ما تزال ترى المرأة «ناقصة عقل ودين»، وفي مديح مواز هي «أخت الرجال» أو «امرأة بعشرة رجال»، لتمسخ وتشوه أنوثتها كي تتقدم خالية منها، أو تقعد بها في البيت، فلا يمكن أن تكون أنثى حرة وحاضرة وفاعلة، أي أن تكون ذاتها، بل عليها أن تكون كما يريدون، وليس من خيارات أمامها، فإما أن تكون ضعيفة، أو تكون مترجلة. وهي قبل كل شيء كاتبة ضعيفة، وعاملة خاملة، لأنها فقط امرأة، ومسؤولة عن كل إخفاق في بيتها وكل عيب في أبنائها، وقد تسلب حياتها لأتفه الأسباب، كأن تقع في الحب مثلا. أو تُحرم من أبنائها إذا تزوجت من غير مواطنها، وقد تصبح تكملة عدد في بيت متعدد الأسرّة، أو تُلقى في الشارع لأن زمنها انتهى، وقد.. وقد .. فقضايا المرأة العربية لا تعد ولا تحصى. عم تكتب، والمعايير معكوسة؟ ومجتمعات الجهل تصنع أبطالها من المفسدين والقتلة، ويذهبون خلفهم في غيبوبة كلية، وهتاف جمعي، وقد يضحون بحياتهم ومستقبل أطفالهم لأجلهم؟ وكم تتغير الأدوار فلا يفطن إليها أحد، فمسؤول يفقد وظيفته فجأة لسبب ما، قد يكون أهمها أنه اختلس ملايين وكان يطمح في المزيد، يتحوّل لمدافع عن حقوق الإنسان، ولص يتحول إلى بطل شعبي، والغريب أن الكل ينتقد، والكل يبدي انزعاجه، والكل يتبرأ من المساءلة، الكل يتبرم ويتذمر، وربما يسخط أحيانا، الكل يعتقد أنه على صواب، والخطأ ليس منه، المواطن يشتكي، والمسؤول يشتكي، الكبير، والصغير، القريب من موقع السلطة والبعيد عنها. فمن المسؤول عن كل هذا الخراب في عالمنا وفي مجتمعاتنا وفي إنساننا؟ هل السلطات هي من فعلت كل هذا الشر؟ أم أن الإنسان كان وما يزال جزءا منه، وفاعلا فيه؟ بالتأكيد كل هذا الدمار في الوعي وفي القيم ليس مرده قوى خارقة من وراء الطبيعة كالجن أو الكائنات الفضائية، وليس الشيطان أيضا، لأننا نتكلم عن وقائع، ونحتاج إلى مفوّض عنه في الأقل لنحكم عليه ونناصبه العداء ونوجه ضده أصابع الاتهام. من الذي يمسك جهاز التحكم لتسيير كل شيء، من تكميم الأفواه، وعصب الأعين، وتدمير الوعي، واحتجاز العقول في الحاجات؟ من يمنع التقدّم، ويحارب المثقف والثقافة، ويصادر الحريات؟ من يقبض بقبضة من فولاذ على أرزاق الناس وعلى وعي المجتمع؟ ولماذا يفعل ذلك؟ ومن الذي ينفّذ كل هذا الشر؟ هل هو الإنسان/ المواطن بدعوى الحاجات، وبذرائع شتى منها الدين والفقر والخوف، وبالتالي فهو جزء من هذا المخطط التدميري؟ وهل كلنا مضطلعون في ذلك بوعي أو لاوعي، فكل تقصير هو مشاركة، وكل خنوع هو مشاركة، وكل تساهل هو مساهمة، وبالتالي علينا أن نشحذ أقلامنا لكشف المستور، وبيان المخبوء؟ فماذا عن عين الرقيب، ويده الطولى، وسجنه الواسع، وقهره التاريخي؟ أم هل نكتب عن الأمل الكاذب؟ والحياة الطيبة التي تتلو علينا وصاياها الحمقاء عن الخير والحب الكاذبين أيضا؟ هل نكتب عن الحريات لنتخيل أننا أحرار؟ أم نكتب عن العشق لنتخيل أننا عشاق؟ أم نكتب عن الكذبات التاريخية التي صدقها الناس؟ أم عن الكتب التي خرّبت عقولنا منذ زمن بالنظريات والوعود التي لا تأتي.. تلك التي تفتّق أوجاعنا؟ أم عن اللوحات التي تعري عجزنا؟ وعن الأفلام التي تفضح تأخرنا؟ أم نكتب فقط عن الموتى لنلصق خيباتنا بهم، ونعلّق أوهامنا على نقطة الصفر التي يعيشون ضمنها؟ أم نبتلع حسراتنا؟ ونحطم أقلامنا؟ ونمضي في الصمت؟