المركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية اهتمام جلي بتحقيق النصوص العلمية بيالغة الثراء والتأثير عربيا وعالميا، حيث أصدر المركز خلال الأعوام السابقة تحقيقين علميين هما: مقالة في النقرس لأبي بكر الرازي، وماهية الأثر الذي يبدو على وجه القمر للحسن بن الهيثم، وفي عام 2010 شرع الدكتور الراحل محمد يسري سلامة في ترجمة وتحقيق نص فريد بعنوان "كتاب شاناق في السموم والترياق" يتناول كل ما يخص السموم والترياق المختلفة تركيبا وعلاجا وأثرا، وقد صدر هذا الكتاب أخيرا بمقدمة لمدير مكتبة الإسكندرية د. إسماعيل سراج الدين ومدير مركز المخطوطات د. مدحت عيسى. وأكد د. مدحت عيسى في مقدمته أن الكتاب نص علمي بالغ الأهمية، إذ يعد من الكتب المؤسسة في تاريخ الطبي والصيدلة، وتزداد أهميته بسبب أن صورته العربية هي ما تبقى بعد أن فقد في لغته الأصلية "الهندية" وأيضا في لغته الوسيطة التي نقل منها إلى العربية "الفارسية" وقد أثار الكتاب تساؤلات كثيرة فيما يتعلق بنسبته إلى صاحبه. وتؤكد الدراسة التي قدم بها المترجم والمحقق د. محمد يسري سلامة لكتابه فرضية مهمة من فرضيات تاريخ العلم العربي، وهي أن معظم القائمين على الترجمات لم يكونوا مجرد نقلة، بل كانوا مفسرين وشراحا متخصصين في العلوم التي يترجمونها. الكتاب بحسب المحقق ذو أصل هندي فيكون من تلك الروافد الخارجة عن دائرة العلوم اليونانية التي عهدناها مرجعا مطروقا بكثيرة في الكتابات العربية المتعلقة بعلوم الطب وفنونه، ومن المعلوم أن علم الطب كان قد تلقى في جنديسابور كثيرا من الآثار الفارسية، وهو ما تجلى فيما بعد في أسماء فارسية مختلفة لأدوية وأغذية ووسائل علاجية، وإذا كنا على علم إلى حد ما بمصادر العناصر اليونانية في الطب العربي الإسلامي، والطرق التي سلكها في انتشارها، فلا يزال الغموض يكتنف هذا الأثر الفارسي وما يرتبط به من أثر هندي. ويضيف المحقق أن الكتاب ليس له أصل معلوم في لغته الأم السنسكريتية، ولا يعرف إلا في صورته العربية التي يحويها السفر الذي بين أيدينا، ومنها انتقل إلى أوروبا وعليها اعتمد الدارسون في دراسته والإفادة منه، وهذا أمر قد يبدو مألوفا في حالة التراث الفارسي السابق على الإسلام، الذي نقل معظمه عبر لغة العرب وبواسطتها، وقد نعثر على نماذج له عديدة أيضا في التراث اليوناني المترجم إلى العربية، ومنها إلى العبرية أو اللاتينية مع فقدان أصله اليوناني، لكنه ليس بمألوف حين يتعلق الأمر بالتراث الهندي الذي اعتاد الباحثون فيه تناول مظاهر حضوره وانتشاره وتأثره وتأثيره عبر حضارات شرق آسيا وشرقها الأقصى، والفكر المتداول في تلك البقاع ولا يجعلون للعنصر الإسلامي نصيبا كبيرا في تصوراتهم لتلك المظاهر. ويوضح د. محمد يسري سلامة أن كتاب شاناق، وإن كان منسوبا إلى أصل هندي فإنه لا يخلو من إشارات واضحة إلى عناصر وشذرات من الطب اليوناني القديم، وهو ما سبب إشكالا لدارسي الكتاب وناشريه، بدءا بالمستشرق الألماني "يوليوس يولي" الذي درس الكتاب وعلاقته بالطب الهندي القديم دراسة فاحصة في بحث مستقل، ثم وضع فرضية تقضي بأن كتاب شاناق قد ألف باللغة الهندية، وذلك على يد مؤلف هندي مجهول اضطلع بجمع المواد الواردة فيه من مصادر هندية ويونانية مختلفة وأنه نقل في صورته هذه إلى العربية. ويلفت إلى أن المستشرقة بتينا شتراوس محققة النشرة الثانية الناقصة من الكتاب، ضعفت فرضية "يولي" السالفة، وذهبت إلى أن العباس بن سعيد الجوهري وهو مفسر الكتاب للخليفة المأمون من الفارسية إلى العربية هو في حقيقة الأمر مصنف الأجزاء اليونانية الأصل من كتاب شاناق التي لم تكن جزءا منه في الأساس، لكنه زادها وألحقها به، وصار الكل مزيجا واحدا في الصورة النهائية التي وضعها الجوهري. ثم جاء سركين فشكك في فرضية شتراوس القائلة بأن الجوهري هو مصنف الأجزاء اليونانية الأصل من الكتاب، وذلك لأن الجوهري كان معاصرا للمأمون بل قرأ عليه ترجمته، فمن غير المحتمل أنه غير الكتاب إلى هذا الحد، زاعما بأنه قد ترجمه وحسب، إذ ليس من العسير على من عرف اللغة الفارسية واطلع على نص شاناق الفارسي آنذاك أن يدرك أن ترجمة الجوهري ليست بترجمة في حقيقة الأمر وأنه قام بتغير مضمون الكتاب تغيرا جذريا بإضافة المواد اليونانية إليه، ما يعد ضربا من الخديعة غير محتمل حدوثه أصلا. ويرى المحقق أن المقاربات المفضلة التي قام بها "يولي" بين بعض نصوص شاناق ونصوص مقابلة في ال "كوتيليا أرثاشاسترا" الهندي المنسوب لشاناقيا، ثم التي قامت بها بيتا شتراوس بين بعض نصوص شاناق ونصوص كتابي ال "شاراكا" وال "سوشروتا" الهنديين من ناحية، وبين كتاب السموم لدسقوريدس اليوناني من ناحية أخرى، قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن الكتاب يحتوي على عناصر هندية أصيلة وأخرى يونانية، وإن كانت العناصر اليونانية فيه أقل وأضعف أثرا. وكذلك فإن فيه مفردات عربية كذكر مدينة البصرة ونهر الأبلة والفرنج والأسماء العربية لبعض الأغذية. ويشير إلى أن وجود هذه العناصر العربية واليونانية في الكتاب يقوض النظرية القائلة بأن الكتاب كله يعود إلى أصل هندي قديم، لأن العلوم الهندية لم تكن معنية أصلا بالتواصل مع نظيراتها اليونانية ولا النقل عنها أو الاقتباس منها في ذلك الزمن، ولكن كانت مدرسة مستقلة تمام الاستقلال. ولذلك لا يعرف في أي كتاب طبي هندي آخر يعود إلى تلك الحقبة وجود أثر يوناني فيه، بينما كان التأثير حاصلا في الاتجاه الآخر، فكان الأطباء اليونانيون المتأخرون على معرفة ببعض الآثار الطبية الهندية واستعملوا أحيانا المستحضرات المقتبسة من الطبي الهندي، كما أثبت المستشرق الألماني ديتز في دراسة مفصلة ولم يعثر في الوقت نفسه على دليل يؤكد التأثير اليوناني في الطب الهندي، سوى عمل وحيد هو كتاب شاناق الذي لا يصلح بالطبع للدلالة على ذلك، لأنه نقل عبر وسيط عربي، وهو الأمر الذي دفع مستشرقا آخر هو رويل إلى التشكيك في صحة القول بوجود هذه التأثيرات اليونانية، بل وود مؤثرات هندية في الطب اللاتيني المتأخر، إلا بواسطة الترجمات العربية. ويؤكد د. محمد يسري سلامة أن التفسير الذي يبدو أكثر رواجا لوجود عناصر يونانية في الكتاب هو أنها أضيفت إليه أثناء المدة الواقعة ما بين تأليفه في موطنه الأصلي سنة 300 ق. م. تقديرا وترجمته إلى العربية في أواخر القرن الثاني الهجري وبدايات القرن التاسع الميلادي، وأن هذه الإضافات قد حدثت في إحدى المدارس الهلنستية المنتشرة في المشرق كجنديسابور، وعلى قدر ما يبدو هذا التفسير معقولا، فإنه لا يفسر وجود العناصر العربية فيه، كما يلزم منه تكذيب الرواية الرسمية الواردة في أول الكتاب وفي سائر المصادر العربية، من أنه نقل من اللسان الهندي إلى اللسان الفارسي في عصر المأمون وليس قبل ذلك، وأن ذلك قد تم على يد منكه الهندي طبيب هارون الرشيد المتوفي سنة 193 ه 803 وأحد الأطباء المتميزين في بيمارستان جنديسابور. يبدأ الكتاب في مقالته الأولى بعد الإشارة إلى المؤلف والمترجم، بعبارة "قال شاناق" ونبذة عامة عن أصل العداوة التي يقصد لأجلها الإضرار بالعدو، وذلك على نمطين أولا من خلال القتال الظاهر بأسلحة الحرب، وثانيا من خلال القتال الخفي بسلاح الحيلة، وأشدها أثرا السمُّ ويلي ذلك وصف للسموم وفقا لأصلها، سواء أكانت من مواد حيوانية أم نباتية أو معدنية، وشرح مبادئ تدبر السمُّ وجرعاته. ثم نبذة ثانية شبيهة الأسلوب بالأولى تناقش العلاقة بين الملوك والرعية وتفوق الملوك على الناس أجمعين بسبب محامدهم وفضائلهم، وأيضا تعرضهم للخطر أكثر من غيرهم من قبل الأعداء وذوي القربى والحاشية. ويأتي بعد هذه النبذة موضوع الصحة والمرض، وضرورة الوقاية من الأمراض لجميع الناس وخاصة للملوك الذين يضمنون أمن سائر الناس، وتقسم الأمراض إلى فئتين الأمراض القريبة والأمراض البعيدة، فأما الأمراض القريبة فسببها عدم توازن أخلاط البدن نتيجة للتغذية الرديئة، وأما البعيدة فسببها حوادث تصيب البدن من خارجه، ومن أبرزها السموم وهي ذات خطورة خاصة لأن الإصابة بها قد يتم في الخفاء عن طريق كل أنواع الأطعمة والأشربة والملابس والعطر والغسول. وبعد التمهيد العام توصف المقالة الثانية علامات الأشياء المسمومة، التي تقسم إلى الفئات التالية: المطاعم النيئة والمطبوخة المشارب عصير الفواكه والفواكه المرباة (الأفسرجات والأنبجاب) العطور والدهانات والكحل والغسول الملابس من أقمشة مختلفة والفرش والمخاد. وتصف المقالة الثالثة السموم التي تضاف إلى الأطعمة والأشربة، وتذكر فيها 12 وصفة لتدبير السم من مواد حيوانية معفنة ويذكر كذلك بعدها ما يلي: وصفة لتدبير السم الذي يحمله الملوك تحت فصوص خواتمهم من أجل الانتحار وصف للترياق الهندي المسمى "كندهسته" ولمكوناته وتدميره وفعله وصفة ثانية لفصين من الخواتم. وتصف المقالة الرابعة فعل السموم والترياقات المذكورة سابقا وترد في آخرها وصفة لجميع السموم الموصوفة. والمقالة الخامسة عن التسميم بواسطة أنواع مختلفة من الغسول والدهانات والملابس، ويذكر فيها عشر وصفات للسموم المركبة، كل وصفة منها مصحوبة بوصفة الدواء الملائم لها، ويذكر بعدها ثلاث وصفات لدهانات تعالج النورة المسمومة.