برز فيلمه الروائي الطويل «الرابعة بتوقيت الفردوس»، في العام المنصرم بوصفه واحداً من أفضل الأفلام العربية. كما برز كواحد من الأفلام السورية التي عرفت كيف تعبّر، بلغة تحاول أن تكون تجديدية، عما يحدث في بلده. مع هذا، يعرف متابعو السينما السورية أن محمد عبدالعزيز ليس جديداً على ساحتها بل هو، في أفلامه الطويلة أو القصيرة، جعل من نفسه منذ سنوات، واحداً من أنشط مجدّديها. ومن أعمال عبدالعزيز، قبل «الرابعة بتوقيت الفردوس»: «ظلال النساء المنسيات» (روائي قصير)، «نصف ميليغرام نيكوتين» (روائي طويل، إنتاج خاص)، «دمشق مع حبي» (روائي طويل، إنتاج خاص)... وهنا حوار معه حول سينماه. - كيف كان حلم السينما بالنسبة إليك... كيف جئت إليها وجاءت إليك؟ أتذكر في السن الرابعة حلماً صافياً... كنت أحلّق فوق منزلنا الطيني... كنت أعوم كريشة... كما في الأفلام، في ذاك الحين أتذكر جيداً عندما ذهبت والدتي الى البئر لجلب الماء، وتركتني وحيداً مع قدر الحليب الذي في غيابها كان يغلي ويفور. كنت خائفاً ومأخوذاً بالفوران بالرغوة البيضاء... أتذكر الديدان البيضاء الناعمة التي كانت والدتي تستخلصها من مياه المطر في البرك والمستنقعات الصغيرة، كانت تغليها وتبردها وتضعها في إناء فخاري للشرب. سينما الواقع... الفتح البصري بدأ عندما تعرفت على الكتاب المدرسي... كانت لوحات - ممتاز البحرة - التي ترافق الدروس والتي تحمل طابع المدينة بالنسبة إلي، كالحفرة بالنسبة الى أليس للولوج الى بلاد العجائب... انسحرت بالصور. الى الآن، أحلم أحياناً بتلك الكتب والصور، وعندما أستيقظ أشمّ رائحة الحبر وعطونة الورق... لم تكن عندنا كهرباء... أمضيت طفولتي على مصابيح الكاز والفوانيس، ظلال الشخوص والأشياء المتراقصة وفق زاوية الضوء هي جزء أساسي من تكويني البصري... الصور الأولى انبثقت من هناك، من تلك الذاكرة البعيدة والمناخ البري الطائش. في إحدى المرات التي كنت فيها متشرداً أنام في الشارع بمحيط التكية السليمانية، كانت ثمة صورة لفتاة كردية من الغريللا على غلاف مجلة الجيل... كنت جائعاً... عادة، ما كنت آكل من فتات الشارع... لكن تلك الفتاة بثّت في روحي شيئاً من قوة الصورة وسطوتها... أول شيء تعلمته في السينما، كان على يد بائع الشاي والقهوة في شركة إنتاج... التقيته مصادفة في شارع الحمرا وقال لي في سياق حديثه أن لقطة من فوق كتف الممثل هي «أوفر شولدر». وهكذا دونت في دفتر ملاحظاتي بقلم رصاص: لقطة من فوق كتف الممثل الى وجه ممثل آخر مصطلحها الفني هو «أوفر شولدر». إذاً لم تأت إلي... لم أذهب إليها... حياتي سينما. تشرّدت أكثر من مرة. في شتاء قارس، بعت سترتي لأشتري شيئاً من الطعام. بعتها بمئة وخمسين ليرة في سوق الحرامية تحت جسر الثورة. اشتريت كيلوغراماً من التفاح من سوق القرماني وذهبت الى سينما دنيا بشارع الفردوس، حيث أمضيت يوماً كاملاً أحضر الأفلام وأنام في الصالة. الى هذا الحين رائحة التفاح تشعل ذاكرتي عندما أدخل الى صالات السينما بدمشق. للمفارقة، عدت في أول أفلامي الى تلك الصالة وصوّرت فيها أولى مشاهد فيلمي. سينمانا ينقصها كل شيء - أفلامك تتوزع إنتاجياً بين العام والخاص... ما الذي ينقص السينما السورية؟ ينقصها كل شيء. إنها سينما فقيرة. هناك بعض الأفلام المضيئة في تاريخها الطويل: «نجوم النهار»، «ليالي ابن آوى»، «الليل» و «طوفان في بلاد البعث». ما دون ذلك، لا شيء ذو أهمية يُذكر. في «دمشق مع حبي» تعرّضت لقضية شائكة، ما حدا بالبعض الى تسمية مغامرتك تلك انتحاراً فنياً. - الأقليات، هل هي هاجس فني أم تاريخي وفكري... أم كلاهما معاً. نشأت في بيئة طيفها الثقافي كان غنياً لدرجة مدهشة: كرد، آشوريون، يهود، عرب، أرمن، سريان، دروز، شركس، علويون، تركمان وشيشان. كانت القامشلي مدينة كونية ولا تزال. من هذه البيئة وغناها، كانت تظهر في أفلامي تأثيرات هذا التنوع. في الزمن الممنوع، كنت أحاول أن أفتح باباً ولو في شكل موارب عبر دهاليز الفيلم، عن هذا التنوع معتبراً إياه كنز سوريا النفيس بدل صبغه وتحديده بالثقافة العربية فقط كما كان يروّج البعثيون ويدعون عبر التلويح بعصاهم الأمنية الغليظة. في «الرابعة بتوقيت الفردوس»، ثمة مجموعة من الاختبارات الفنية والفكرية في البنية السردية واللغة السينمائية. - كيف تعاملت مع ذلك، وما الذي كنت تريده؟ كنت أحاول الدمج بين الأنماط المختلفة. بين البنى المتناقضة. من دون أن أعرف تماماً ما هي النتائج التي ستؤول إليها تلك الاختبارات. التجربة كانت تشبه خلط عنصرين كيماويين وانتظار ما سينتج من هذا الخلط. لقد كان الأمر جذاباً ومنهكاً وممتعاً في الكثير من جوانبه على مستويات صناعة الفيلم كافة. في النهاية، أعتقد أنني وُفّقت بالكثير من جوانب الفيلم وأخفقت في الكثير أيضاً على مستويات أخرى. لو أقدر وأعيد مونتاج الفيلم، أعتقد أنني سأحصل على نسخة أفضل بكثير. خصوصيّة الممثل - في العلاقة مع الممثل في أفلامك ثمة خصوصية واضحة. كيف تتعامل مع ممثليك؟ بعد اختيارهم، أجري معهم عادةً بروفات لقراءة النص في شكل كامل. ثم ننتقل الى مرحلة البحث عن الشخصية وتفكيكها وتحليلها ورسم الخرائط الانفعالية والحسية لها. ثم أقيم عادةً ورشة عمل مصغرة لتحليل النص وبنيته، وأترك باب الاختبار مفتوحاً حتى أثناء عمليات التصوير والمونتاج.. هناك سلسلة طويلة ومنهكة من الخطوات والاختبارات للممثل حتى نصل ونلامس شيئاً ما. - في رأيك، كيف تنعكس الأزمات الكبرى على السينمائي... الحالة السورية كخصوصية؟ لا أشعر بمنعكسات أنا ذاتي في عين هذه المنعكسات، وهي جزء عضوي من حضوري اليومي، وبالتالى جزء من كيمياء الفيلم. أعيش داخل فيلم سينمائي كبير، طيران يحلق، قذائف تنهمر، أحياء بكاملها تختفي، وسيارات مفخّخة تمزّق المارة الى أشلاء. بالقرب من منزلي، انفجر باص نقل داخلي، عشرون شخصاً رحلوا، لم أكن أنا وابني في المنزل، كنا في موقع التصوير. مساءً، عدت. كان الدمار كبيراً فيما فرق الإنقاذ كانت تقوم بتنظيف الخراب. كان أولاد الحي يلعبون كرة القدم، نوافذ منزلي كانت مهشّمة، معظم اللوحات كانت على الأرض، وكالجميع رتبنا المنزل وتابعنا الحياة في اليوم التالي. أفكر دائماً بما أصنع. ما هو الفيلم؟! أنا، نحن الفيلم ومنعكساته... بلا خدع سينمائية أعيش داخل الفيلم، غالبية ما شاهدته على الشاشة أعيشها واقعياً في دمشق. غالبية قتلة الأرض يتقاطرون الى حيث أحيا. أفكر بوالدتي حين دسّت تفاحة خضراء في طين الجدار، لأن شقيقتي لم تكن تنجب. بكرتي الحمراء التي أضعتها في حقل القمح، بمقبض السكين الخاص لذبح الأبقار الخاص بزوج عمتي، بحذائي المرقع، بخيط القنب، بالطريق الترابي المتعرج كأفعى، حيث ينتهي الى أسفل التلة الترابية في أعلاها قبر أبي، بجدتي الأرمنية التي التقطها المارة من حفرة الجثث وعاشت وماتت ولم تعرف اسم والديها، برأس الكلب المجفف المتدلي من سقف مدخل منزل جارنا الطيب في الشمال، بأذناب السحالي وارتجافاتها الأخيرة حين كنا نسحقها ونحن صغار، لأنها بغفلة من الله أضرمت النار في الفردوس كما يشيع الكرد، بالطفلة التي قبلتها أول مرة خلف كومة عيدان القطن، بالفراخ الميتة قرب أعشاش العصافير، بالديدان البيضاء الصغيرة أسفل دلو الماء، بالعقرب الذي لدغ قدم والدتي. - هل ترى أن ثمة مستقبلاً أو أفقاً أمام حال السينما السورية... وكيف؟ لا أدري. لست متنبئاً. لكن من معطيات ما أشاهد، المستقبل بائس، والبؤس حسن في هذه الحالة. - كيف تجد نفسك ضمن خارطة السينما السورية؟ لا أعرف. لديّ شكّ عميق في وجودي على خارطة العالم. من أنا؟ لا أمتلك إجابات. ربما أكون مجرد عابر. - "الحرائق"، عملك السينمائي الجديد والذي لم يعرض بعد، ماذا عنه؟ " الحرائق" كولاج. خلاصة الشكل الذي انتهجته منذ 2006، وسيكون ختام النمط الذي بحثت فيه طوال كل أفلامي سابقاً... ربما سيكون أكثر نضوجاً من كل تجاربي. - تحضر حالياً لعمل تلفزيوني، ماذا عنه... هل هو خيار أم حاجة؟! حاجة!