في روايته "شمتو" الصادرة مؤخرا ينجذب الشاعر الأردني مصطفى القرنة إلى سحر التاريخ في منطقتي شمتو وبيلاريجيا اللتين تعتبران من المعالم الأثرية الهامة في ولاية جندوبة الواقعة في أقصى الشمال الغربي للجمهورية التونسية، ويؤرخ المؤلف عبر بناء روائي لأحداث تاريخية في تلك المنطقة عبر ربطها أيضا بجغرافية لها خصوصية حضارية ومدنية لسكان تلك المنطقة. وتصف "شمتو" بإسهاب وتفصيل سردي متقن الأوضاع القاسية التي كان يعيشها أهالي هذه المنطقة في ولاية جندوبة من استغلال، وما يبذلونه من جهد وتعب في استخراج ما في سهول شمتو من خيرات طبيعية، إذ تشتهر المنطقة بحجر الرخام الوردي الذي لا يزال حتى الآن قائما وثابتا في قصور الأثرياء في إيطاليا، وكان الأهالي يقاسون في عمل شاق بأرضهم ويذهب خير سهولهم الغنية إلى غيرهم، حيث يتم شحن الرخام إلى قصور روما ويتمتع به الأثرياء الرومان من قادة وأباطرة وموسرين. وعندما تبلغ المعاناة أشدها عند الأهالي وتتجرح أيديهم كما وصفها القرنة، وتلوح الشمس الحارقة صيفا وجوههم وتلونها بالشحوب والسمرة، وينخر البرد عظامهم شتاء ويصيب الوهن عضلات أيديهم وأرجلهم، وعندما يتعامل معهم الطغاة من الجند والعملاء من السكان المحليين بلا إنسانية ودون اعتبار حقوقهم وتقدير جهودهم ودون إعطائهم ما يستحقون بدل تعبهم، بعد كل هذا تصير الثورة مطلبا ضروريا وملحا وحقا مشروعا للخروج من دائرة الاستغلال القاهر والمهين. على أن أهم حدث في الرواية والذي عجل من ثورة الفلاحين هو ما يواجهونه من عقاب من الرومان في حال ظهر منهم رد فعل تجاه الظلم مثلما تعرض إليه أحد شخصيات الرواية وهو فلاح بسيط اسمه دنو الذي اتهم بعدم الالتزام بدفع الجزية عن محاصيلهم وكان مصير تمرده هو السجن بمدينة شمتو التي يقع فيها السجن الكبير الذي يمثل حظيرة لا إنسانية للانتقام من الأهالي البسطاء. في السجن يتعرف دنو إلى بعض السجناء الذي يعانون مثله قسوة وظلم الرومان ويخطط للهرب وتغيير حياته ويتفق مع رجل قتل والد حبيبته في بيلاريجيا لأنه رفض تزويجه غياها بحجة انتمائه إلى طبقة اجتماعية دنيا إذ لا يجوز في عرف وجهاء المنطقة وموسريها أن يطمع رجل فقير في سيدته. وتسير الرواية في وصف الظلم والقسوة في تلوينات سردية تتصاعد تشويقا وإثارة حتى تشتعل ثورة عارمة يقودها قائد محلي يدعى ديكرج الذي ينطلق في مسالك الجبال والطرقات الملتفة للمزارع وضفاف الأنهار والأودية ويشحذ همم الأهالي المقهورين ظلما من أجل توحيد الصفوف في مواجهة هذا المستعمر الغاصب، الذي يقتات على ثروات سهولهم وأراضيهم ويرسل ثمارها وغلاتها وثرواتها إلى أسياد روما، "غير عابئ بألم المطحونين بين أضراس مقاطع الرخام القاسية، ولا الجائعين يجرون عربات القمح والزيتون الى مخازن روما". وينجح ديكرج في تنظيم مقاومة جريئة ومستعدة بكل ما عانت من ظلم واستعباد لمواجهة الطغاة بكل شجاعة واسترداد حقوق دفع الاهالي الكثير في سبيل إنتاجها وقطف ثمارها المغتصبون وجيروا كل ثروة فيها إلى أرصدتهم الخاصة وتمتعوا بخير لا حق لهم فيه. يستحضر القرنة في هذه الرواية مراحل زمنية مهمة من تاريخ منطقة شمتو وبيلاريجيا بأسلوب يجمع بين السرد الروائي والتوثيق الجغرافي والتاريخي، فقد وظف الروائي المعلومات التاريخية لواقع اجتماعي يعاني في ظل الاستعمار الروماني القاسي لشمال أفريقيا في بناء أحداث متصلة بهذا الواقع ونحج في وصف المكان الذي زاره الروائي وسحره بأنهاره وسهوله وبهره بجباله وغاباته وشواطئه حيث كانت هذه الامكنة الإطار الذي تحركت شخصيات الرواية داخله. وقد قدم الرواية الإعلامي والناقد التونسي الصحبي العلوي الذي قال في جزء من تقديمه "تعيد رواية القرنة الجديدة سبر أعماق الحضارة الإنسانية من خلال الكتابة عن وفي مدينتين نوميديتين لا تزال تشهد الآثار على تطور الحياة فيهما، وعن قسوة العلاقات الاجتماعية الظالمة، فالمدينتان عرفتا الاحتلال الروماني فيما يعرف بحركة "رَوْمَنَةِ شمال إفريقيا، والمدينتان تقعان شمال البلاد التونسية ولعل المعطى التاريخي الآني يصب جام زخمه على هذا الاختيار فبعد ثورة تونس 2011 انطلق نمط جديد من الآمال يرنو إلى فك الارتباط مع الحالة المتعفنة للوطن العربي الذي تكلست فيه الحياة وماتت فيه أحلام المبدعين تحت نير نوع من الحكم الاستبدادي الذي لا يليق بالجنس البشري على مشارف التوغل في عقود القرن الواحد والعشرين". ويذكر أن مصطفى القرنة شاعر وروائي أردني، ورئيس تحرير مجلة الكاتب الأردني التي تصدر عن اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين، وله من المؤلفات رواية "الموت بطعم مالح" ورواية "خيمة مشرعة للريح" ومجموعة قصصية بعنوان "دولاب الجان" كما صدر له ديوان شعري بعنوان "انتبه عند المرور".