ماذا يعني أن تكتب عن مرحلة الاحتلال الصهيوني لأرض الجنوب من بعد الانسحاب؟ كيف تُكتب قصص الوجع من بعد رحيل المحتلّ؟ أي حفر تركت في أعماق الكاتب لتظهر أوشام الحرب على هذه الدرجة من الوضوح؟ «العطر والفقر وما بينهما» لاسماعيل الأمين هي قصص الحياة بما فيها من وجع ومرارة ومعاناة وخيبة أمل. هي حكايات الفقر والتّشرّد واليتم والجوع والاحتلال والمقاومة. المعاناة التي سطّرها الأمين لا تصوّر تجربة خاصّة ذاتيّة بقدر ما تعكس تجربة جماعيّة عانى منها معظم أهالي المناطق الجنوبيّة، التي خضعت للاحتلال الصهيوني، وما استسلمت. هي حكايات الفقر الممزوج بالنّضال، وقصص الفروقات الطبقيّة في المجتمعات الزّراعيّة، والذّلّ الذي تتعرّض له المرأة المهضومة الحقوق، حيث يتمّ التّعامل معها على أنّها جزء من المتاع. «مِن نِصّ دين شقرا»: يكرّس القسم الأوّل من هذه المجموعة القصصيّة الصّورة النّمطيّة للأنثى التي تُسحق وتُهان وتُضرب وتُمارس في حقّها مختلف ضروب العنف النفسي والمادي، وهي في موقع المتلقّي لا بل المتواطئ مع الجلّاد، كونها لم تنتفض على واقعها، ولم تقدّم أمام أطفالها سوى نموذج المرأة الضعيفة المستسلمة. كما يعكس اسماعيل الأمين في هذه المجموعة صورة المجتمع الذّكوري الذي يحتكر السّلطة، ويتم توارثها من الأب إلى الابن، الذي يغدو هو المتحكّم في أمّه بعد وفاة الوالد، لا سيّما عندما يصبح هو المعيل الوحيد للعائلة. «سلطة الوالد في البيت آلت إليّ منذ اللحظة التي سلّمتها فيها الليرات الخمس الأولى»(ص.47) ولعلّ من الأمور التي يستحقّ التّوقّف عندها أنّ الكاتب على الرّغم من تعدّد الشّخصيّات النّسويّة في قصصه، لم يصف ملامح إمرأة معيّنة، بل قدّم صورة مهشّمة تكرّرت في عدد من الأقاصيص الواردة في القسم الأوّل. هذه اللوحة الرّجعيّة للمرأة تقف على طرف نقيض من صورة المرأة الغربيّة التي حضرت في سرد المجموعة الثّانية «من نصّ دين لندن» حيث رسم الكاتب صورة للمرأة المتحرّرة في علاقاتها الجنسيّة. في حين أنّ الطّالب العربي، الذي يمّم شطر الغرب طلبًا للدراسة، يبدو منغمسًا في السعي وراء ملذّاته، فتتكشّف الحياة في صورة إقامة علاقة غراميّة عابرة مع نساء، تعويضًا عن كبت رافقه من مسقط رأسه. لم تقدّم «العطر والفقر وما بينهما» صورة سويّة عن المرأة، بل أظهرت التّناقض الذي يعيشه الشرقي ما بين ممارسة العنف عليها من جهة، وما بين الارتماء في أحضانها من جهة ثانية. هذا الارتباك انعكس في الجملة القصيرة التي فاض بها السّرد لا سيّما الحوارات داخل الحانات الأوروبيّة. كما تجلّى من خلال التّقطيع الزّمني، وكثرة الاسترجاعات التي كانت تغزو حياة الرّاوي، وتعود به إلى لبنان زمن الاجتياح الذي وصل إلى بيروت. كما طرح الكاتب في القسم الثالث من هذه المجموعة (من بيروت) ما كان بدأه في القسمين الأوّل والثّاني، أي قضيّة البحث عن ملجأ لم يجده في قريته التي تعرّضت إلى الاحتلال، كما لم يعثر عليه في مدن أوروبا، ولا حتّى في بيروت التي وجد نفسه غريبًا عنها ما إن وطأت قدماه أرض المطار، عاد إليها بلا حقائب، لتصدق نبوءة العرّافة «أنّه سيعود أدراجه مساء اليوم نفسه»(250). هي قصّة تتكرّر يوميًّا عن الغربة في الوطن. .... * صدر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر